على مد العصور نجد دائما أن الزي والملبس في الدول العربية والإسلامية يعكس النظام السياسي للدولة سواء كان هذا النظام علماني أو ثيوقراطي أو وطني. لكن ما يجعل أنظمة الإسلام السياسي مختلفة عن الأخرى هي استغلالها للتفاسير الدينية المختلفة لتثبيت أيدلوجيتها السياسية وبالتالي يصبح عدم الالتزام بهذا الزي ليس فقط مخالف لتوجه الدولة بل مخالف للدين والشرع وأكثر من يتعرض لتلك الهيمنة والزي الإجباري هي المرأة.
على سبيل المثال، انعكس حكم الدولة العثمانية على زي النساء التي كانت ترتدي الحجاب وغطاء الوجه والعباءة التي وصلت للجزيرة العربية بشكلها الحالي خلال الحكم العثماني. وبعد سقوط الدولة العثمانية وبينما كانت الجمهورية التركية العلمانية لا تزال في مهدها، تم إدراج قضية اللباس على قمة جدول أعمال النظام الجديد.
أراد أتاتورك تحديث تركيا وجعلها تصل إلى مستوى الحضارة الأوروبية المعاصرة فوجد أن المظهر الديني التقليدي يبعد شعبه عن أوروبا. لذلك، صدر عام 1934 قانون اللباس الذي يحظر ارتداء الملابس الدينية خارج أماكن العبادة وفي عام 1984 جاء أول قرار بحظر الحجاب في الجامعات والذي طبق على نطاق واسع ليشمل عددا من القطاعات.
بعد نكسة 1967 بدأ الإسلاميون بنشر أفكارهم ومعتقداتهم في المجتمع وتبرير النكسة بالابتعاد عن الدين
وفي عام 2008 تم رفع حظر لبس الحجاب وفي عام 2013 تم رفع الحظر عنه في مؤسسات الدولة بشكل كامل. ورغم غياب أي قانون يلزم النساء بلبس الحجاب، حتى اليوم، لكن هناك طرقا غير مباشرة لنشر الحجاب من خلال العنف والعدوانية التي تتعرض لها النساء من الرجال المطالبين بلباس أكثر تحفظا.
ومن إحدى الحوادث التي وقعت في حزيران/يونيو الماضي، تعرضت الشابة ايسينا ميلسا ساغلام لهجوم من رجل على متن حافلة في اسطنبول لارتدائها سروالا قصيرا (شورت) في شهر رمضان. وأظهر شريط فيديو للحادث أن الرجل ضربها بينما اتخذ سائق الحافلة موقف المشاهد ولم يعاقب الرجل المعتدي مما يدل أن السلطات التركية مؤيدة بطريقة غير مباشرة لما حدث.
تلك الحوادث أدت إلى القيام بمسيرات نسائية أطلق عليها اسم "لا تفاوض مع ملابسي". هتفت النساء شعارات ورفعن سراويل قصيرة كأمثلة على نوع الملابس التي يقول بعض الرجال إنها غير مقبولة. ترى المتظاهرات أن حزب العدالة والتنمية يهدف من وراء كل هذه الخطوات لأسلمة المجتمع والدولة التي ستفرض لباسا إلزاميا على النساء تدريجيا، مما يعني أن ذلك سيقضي على الأسس التي قامت عليها الجمهورية التركية والعودة بالبلاد إلى نظام الخلافة العثمانية.
ويؤكد تصريح أردوغان أنه يرغب بتشكيل جيل يؤمن بالثقافة العثمانية وتصريح رئيس البرلمان التركي إسماعيل كهرمان أن تركيا بلد مسلم، وبالتالي، يجب أن يكون لها دستور ديني، شكوك النساء المتظاهرات.
ما يحدث في تركيا اليوم، حصل بشكل مشابه في إيران سابقا. ففي عهد رضا شاه بهلوي عام 1928 كان هناك حظر على الحجاب وكان الزي الأوروبي الزي الرسمي للبلاد. ومن لا يلتزم باللباس يعاقب إما بغرامة مالية أو بالسجن غي عقوبة تتراوح بين سنة وسبع سنوات.
وبعد الانقلاب على الأب رضا شاه بهلوي عام 1941 حاول الابن محمد رضا شاه أن يكسب دعم الشعب وبالتالي رفع حظر الحجاب في الجامعات للطالبات وأساتذة الجامعات. وفي عام 1949 صدرت فتوى بمنع النساء من التسوق في البازارات بدون لبس الشادور (معطف فضفاض غالبا لونه أسود يقال إنه يعود إلى عصر الأخمينيين).
وفي أوائل عام 1979 أعطى الزي بعد الثورة الإسلامية الإيرانية زخما للتحالفات السياسية والدينية. وفي عام 1981 أعلن الحجاب لباسا إجباريا لكل النساء من سن الثانية عشرة سواء للمسلمات أو لغير المسلمات وأصبحت عقوبة عدم لبس الحجاب تصل إلى سنة أو أكثر في السجن.
وقد خرجت احتجاجات نسائية اعتراضا على هذا الفرض إلى أن هاجمت قوات الأمن المعترضات وبدأت بضرب الجميع بالعصي وهم يرددون "غطاء الرأس، أو ضرب الرأس"، وكانت تلك أول وآخر مرة تخرج فيها النساء إلى الشوارع للاعتراض على الحجاب الإلزامي في ذلك الوقت.
لقد كان للثورة الإسلامية في إيران تأثير على كل المنطقة لأن الثورة لم تنكفئ على نفسها في الداخل بل عملت على تصدير الثورة بأيدلوجيتها الكاملة من ناحية المظهر والجوهر. وساهم هذا الأمر، بالإضافة إلى عوامل سياسية أخرى في المنطقة في انتشار الحجاب.
في السعودية على سبيل المثال، لم يكن الحجاب مفروضا على مضيفات الخطوط الجوية السعودية ولا مذيعات التلفزيون. ولم يكن لبس العباءة إجباريا بالنسبة للأجنبيات في المملكة إذ كان لهن كامل الحرية في اللباس وحتى الظهور على الشواطئ وحمامات السباحة. لكن كل ذلك تغير بعد حادثتي جهيمان العتيبي في الحرم المكي وثورة الخميني؛ وكلتا الحادثتين حصلت عام 1979.
ومع بزوغ عهد الصحوة في الثمانينيات من القرن الماضي، لم تكتف السلطات بفرض الحجاب بل منعت نهائيا ظهور المذيعات على القناة السعودية وبث أغاني المطربات وفرضت العباءة على الأجنبيات.
حاليا، ومع تولي الملك سلمان حكم المملكة وحملة التحديث التي يقودها ولي عهده الأمير محمد بن سلمان على الساحة السياسية والاجتماعية لنفض تأثير عهد الصحوة التي وصفها الأمير بالحالة غير العادية وغير الطبيعية التي دخلت على المجتمع السعودي، برز شيوخ مثل الشيخ عبد الله المطلق، العضو البارز في هيئة كبار العلماء بالسعودية، ليقول إن المرأة ليست ملزمة بارتداء العباءة ما دامت تستر نفسها بملابس محتشمة.
أثبتت لنا التظاهرات في إيران العلاقة بين اللباس ودعم الأيديولوجية السياسية
وفي مصر كان للتغييرات السياسية أثر كبير على مظهر المرأة. فقد كان للحركات للتحررية التي دعمتها أسرة محمد علي أثر كبير في ظهور المصلحين الاجتماعيين والحداثيين في حركات تحرير المرأة خاصة بقيادة المصلح الاجتماعي قاسم أمين. بدأت هذه الحركة عام 1889 وظهرت نتائجها بوضوح عام 1920 بقيادة الناشطة النسوية المصرية هدى شعراوي التي كانت إحدى المؤثرات في نزع النقاب في مصر عام 1921 عندما نزعت النقاب أمام العامة. وكانت هذه الحركة النسوية التحررية مؤثرة على أغلب الدول العربية.
استمر هذا الوضع الحداثي في عهد الملكية المصرية إلى أن تم الانقلاب العسكري عام 1952. بدأت مصر منذ ذلك الوقت بالاتجاه من الحداثة إلى مبادئ القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر التي كانت لها نزعات علمانية ولم تكن متوافقة مع أيدلوجيات الإسلاميين وخاصة الإخوان المسلمين في فرض الحجاب.
بعد نكسة 1967 بدأ الإسلاميون بنشر أفكارهم ومعتقداتهم في المجتمع وتبرير النكسة بالابتعاد عن الدين. لاحقا، انتشر الحجاب بشكل أوسع في مصر في الثمانينيات عندما قرر أنور السادات أن يحارب اليسار بالإسلاميين وأخرجهم من السجون التي دخلوها تحت حكم عبد الناصر.
عندما خرجوا من السجون أدلجوا المجتمع، خاصة بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة بنشر الحجاب خاصة في المدارس التي انتشر فيها المدرسون الإسلاميون (الإخوان المسلمون) والجمعيات مثل جمعية "الأخوات المسلمات". وكان هناك دور كبير لعدد من الدعاة مثل محمد متولي الشعرواي ولاحقا عمرو خالد في نشر الحجاب بين الطبقات الغنية والمشهورة كالطالبات الجامعيات والممثلات.
من خلال كل تلك الحملات التي كان هدفها الأساسي سياسيا، وإن ظهرت كواجب ديني، تحول الحجاب في مصر إلى فريضة اجتماعية. إذا خلعته المرأة، يمكن أن تعنف المرأة إما جسديا من أهلها أو معنويا من خلال تشويه سمعتها.
إضافة إلى ذلك ومن ضمن العوامل التي أثرت في نشر الحجاب والنقاب في مصر العمالة في دول الخليج خاصة في السعودية؛ وخصوصا العمالة التي سافرت بعد ابتداء عهد الصحوة في الثمانينيات إذ تأثرت بالزي الذي كان منتشرا كالعباءة والنقاب، وعادت بذلك اللباس لمصر.
مؤخرا أثبتت لنا التظاهرات في إيران العلاقة بين اللباس ودعم الأيديولوجية السياسية. على الرغم من أن أسباب تلك التظاهرات، التي بدأت من مدينة مشهد في 28 ديسمبر 2017، كانت اقتصادية، لكن بعد ذلك ظهر الرفض للنظام الديني بكل مظاهره من خلال خلع النساء للحجاب. وقد شاهدنا كيف انتشرت صورة فيدا موفاهد في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي السيدة التي خلعت غطاء رأسها الأبيض وصارت تلوح به بعد وضعه على عصا في تحد ورفض واضح للنظام الديني الحاكم في البلاد. وأصبحت تلك المرأة رمزا للتحرر والأمل لكثير من رافضي الثيوقراطية في إيران.
تدل الاعتقالات الهيستيرية والمعاملة العدوانية التي مارسها النظام ضد النساء اللواتي خلعن حجابهن على أن الحجاب يعتبر هوية ورمزا لهذا النظام وخلعه لا يعد فقط رفضا له بل رفضا للنظام بمجمله. وقد أكدت على ذلك رئيسة المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية مريم رجوي، في تغريدة لها على موقع تويتر أشارت فيها إلى "أن النساء لم يخرجن إلى الشوارع ليطلبن شيئا من النظام؛ وإنما خرجن من أجل إزالة نظام الملالي. النساء لم ينتفضن من أجل الحرية لأنفسهن فقط، وإنما انتفضن من أجل تحرير إيران بكاملها". ويتطابق كلام رجوي مع رأي رضا بهلوي، ابن شاه إيران السابق، بأن الانتفاضة في إيران ضد النظام الديني الذي يفرض أيديولوجية دينية أحادية على الشعب.
الأمر الغريب، أننا لم نر النسويات في الغرب يستنكرن الاعتقالات والتعنيف الذي مارسه النظام الإيراني على النساء اللواتي خلعن حجابهن في تلك المظاهرات، لكننا نجدهن يدافعن باستماته عن لبس الحجاب وأي انتقاد له يعد في نظرهن كراهية ضد الأديان.
ترى المتظاهرات أن حزب العدالة والتنمية يسعى لأسلمة المجتمع والدولة
وفي أغلب المسيرات النسوية في الغرب نجد النساء يرفعن لافتات لنساء محجبات دعما للمسلمات وكأن هذا رمز اقتنعت به كل امرأة مسلمة. وهذا يشير إلى أن تلك المسيرات تحصر حقوق المرأة المسلمة في قطعة قماش بعيدا عما تعاني منه المسلمات من العنف الجسدي والمعنوي، جرائم الشرف، قانون الولاية، الزواج القسري، ختان البنات وغيرها. تبدو الحركات النسوية في الغرب وكأنها اللسان الناطق للأنظمة الدينية والجماعات المتطرفة التي تحقر المرأة وتزيد من هيمنة الرجل.
إن فرض لباس معين على النساء أو تغييره بحسب أيديولوجيا الأنظمة الحاكمة أو حسب تغيير مسيرة نظام حاكم يعتبر من أكثر أنواع التحقير للمرأة. فهذا الفعل، يُظهر النساء وكأنهن دمية تغلفها السلطة المهيمنة متى شاءت وتكشف عنها متى ما أرادت.
يفترض بزي النساء أن يكون خيارا وليس وفرضا، وألا يدخل ضمن مفهوم هوية سياسية أو دينية معينة.كما أنه يجب العمل على رفض أي فرض للباس سواء كان ذلك عن طريق القوانين أو بغسل الأدمغة من خلال أيديولوجيات معينة.
لقد اختلف الفقهاء بالنسبة للحجاب كونه فريضة أم لا، لكن الجميع يعترف بأنه ليس من الأركان الخمسة وبالتالي لا يجب أن تعامل من لا ترتديه أو من خلعته كأنها تركت أحد أركان الإسلام. وحتى يمكن إقناع المجتمع بتلك الحرية في الاختيار لا بد من حملات توعوية في الداخل، لأنه ثبت لنا أن الحركات النسوية في الغرب لا تفقه شيئا عما تعانيه المرأة في الدول العربية والإسلامية وإنما يتم استغلالها من قبل فئات لها مصالح معينة، لذلك فإن تفعيل الحركات النسائية داخل كل دولة في المنطقة هو الأسلم للحفاظ على استقلالية المرأة وحريتها في الاختيار.