بقلم - لمرابط مبارك
كانت للكلمة رنة قاسية عندما سمعتها لأول مرة من فم والدي الراحل، في واحد من أيام طفولتي: جرادة. كان يحكي لنا نحن صغاره عن تجربته المؤلمة في هذا المكان المبهم والبعيد جدا، الذي قاده إليه البحث عن لقمة العيش، هو الشاب الأمازيغي القادم من جبال سوس المتاخمة للصحراء. هناك اشتغل لبعض الوقت في مناجم الفحم مثل الآلاف قبل أن يغادر للعيش تحت سموات أخرى.
بسبب حكايات الوالد، ارتبط عندي هذا المكان القصي بالبرد القارس، والجوع، والظلام والعمل الشاق. كان المكان الذي يحكي عنه والدي خارج الجغرافيا وأبعادها الأربعة.. كان هناك في بعد خامس، تتحرك فيه كائنات حكم عليها إله غامض وطائش بالعيش في ظلامه وبرده “الذي كان أشد قسوة بكثير من برد فرنسا”، حسب التعبير الأثير للوالد الذي جرب الطقسين معا.
ما حكاه والدي عن جرادة وقسوتها يعود إلى أواسط الأربعينيات من القرن الماضي، وهو يشبه إلى حد التماهي وضع هذه البلدة اليوم، بعد مرور حوالي سبعة عقود. فهذا المكان ظل خارج الجغرافيا والتاريخ معا. والكائنات التي رماها قدر أحمق فيها تعيش في زمن غير الزمن. زمن رواية إميل زولا الشهيرة “جرمينال”، حيث الظلام وضيق التنفس تحت الأرض، والقسوة والجوع فوقها.. الزمن الذي تقول فيه إحدى شخصيات الرواية قولة تُجمد الدم في العروق: “quand on est mort on n’a plus faim”.
لو كُتب لإميل زولا زيارة جرادة في هذا الزمان، لربما وجد روايته القاسية “جرمينال”، عملا ناعما ومتحملا. فعلى الأقل كانت مناجم شمال فرنسا ورغم قسوتها تعبر عن زمانها بقسوته الشديدة وصراعاته وآماله كذلك، كانت تحيى تاريخها وتعيش في جغرافياها.
أما جرادة ومناطق أخرى كثيرة من “المغرب غير النافع”، المترامي الأطراف، فهي تعيش خارج الزمن والمكان معا. ولو لا صرخات الكائنات التي تحيى فيها واحتجاجاتها، لما سمعنا عن معاناتها، ولما علمنا بمقدار يأسها.
إن جرادة القاسية هذه، وباقي البثور (الحسيمة، زاكورة، سيدي إيفني… وغيرها) كلها قنابل موقوثة قد تنفجر في أي وقت إذا لم يتم إطفاء النار التي تأكل فتيلها، والتأكد من أنها قد انطفأت كليا، وليس إخمادها بتراب القمع أو بعض الوعود أو حتى إسفنجة بعض الإجراءات لامتصاص غضب السكان، الذين سئموا الاكتفاء بصرف الحياة في محاولات البقاء على قيد الحياة.