بقلم - لمرابط مبارك
مثل غيري، تابعت خطاب العرش، وقرأته فيما بعد بتمعن. ولا أخفيك أن “أناي” المتسرع كان منشرحا وهو يتابع كل تلك المقاطع التي قرع فيها رئيس الدولة المسؤولين الإداريين والسياسيين. ولم يخف ابتسامة التشفي حين وصل إلى المقطع الذي يقول فيه مثلا إن من الموظفين “من يقضون سوى أوقات معدودة، داخل مقر العمل، ويفضلون الاكتفاء براتب شهري مضمون، على قلته، بدل الجد والاجتهاد والارتقاء الاجتماعي”. أو حين يقول إن “بعض الفاعلين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل”.
واتسعت تلك الابتسامة المتهكمة أكثر حين توجه رئيس الدولة إلى كل هؤلاء بالقول: “كفى، واتقوا الله في وطنكم… إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا”. وهناك مقاطع أخرى، كلها تدغدغ الأذن والنفس.
“أناي” الآخر، الذي لا ينجر كثيرا وراء الأول، تساءل كثيرا بعد قراءة كلمة رئيس الدولة: ماذا بعد؟ ويخشى حقا أن تصبح مثل هذه الخطابات ذات اللهجة الشديدة، أدبيات جميلة يُستشهد بها في كل المناسبات وفي كل مكان، وتعتبر هذه الاستشهادات نوعا من “التجسيد” لها في الواقع، وينتقل الجميع إلى الاهتمام بشؤونه الصغيرة والأقل صغرا في انتظار الخطاب الموالي.
ففي السنين الأخيرة فقط، كانت هناك خطابات أثارت اهتمام الناس لفترة، أذكر منها على سبيل المثال فقط، خطاب العرش الشهير الذي تساءل فيه “أين الثروة”، أو الخطاب الآخر الذي انتقد فيه الإدارة وشدد على ضرورة العمل على تحسين أدائها والرفع من فعاليتها…
كل هذه الخطابات التي عبر فيها رئيس الدولة عن عدم رضاه عن الأوضاع، تتلوها الكثير من التصريحات المثمنة والمشيدة، وقد تتبعها بعض الاجتماعات هنا وهناك، وتتخذ بعض القرارات التي لا يظهر لها أثر على حياة الكائن المغربي إلا لماما.
وفي تقديري، فإن تلك الاجتماعات وحتى الخطابات يجدر بها أن تركز بالأساس على كيفية خلق إنسان مغربي جديد.. إنسان ينتقل من كونه مجرد “كائن” سلبي في جماعة تهيمن عليه وتكبح انطلاقته بالتقاليد والدين وممارسة سياسية تتسم بالسلطوية والأبوية، إلى مرحلة يكون فيها “فردا” كاملا وفاعلا، يمتلك حقا تلك “القدرة على التنفيذ والإبداع”.. إنسان يمكنه حقا الغضب والاحتجاج بشكل منظم وسلمي، وليس مجرد كائن يكتفي بالتنفيس عن ضيقه وغيظه وبطرق يغلب عليها الانفعال وليس التفكير… إنسان يحس بانتمائه حقا إلى هذه البلاد، وليس كائنا يشعر أنه مجرد لبنة صماء في جدار أصم.. إنسان قادر على بناء المؤسسات (سواء أكانت إدارية أو سياسية أو قضائية أو غيرها) والاحتكام إليها، وليس مجرد كائن متعلق بالأشخاص (بشيخ القبيلة وبالقايد والعامل والوالي والمستشار، والبرلماني … إلخ).
لا شك أن خلق مثل هذا الإنسان سيتطلب مجهودا مضنيا ونفسا طويلا وزمنا هائلا، ولكنه السبيل الوحيد في تقديري لعلاج كل الأمراض التي تنهك جسد البلاد… فهل نحن قادرون على النهوض بهذه المهمة شبه الإلهية؟