رشيد نيني
انشغالات الأثرياء ليست بالضرورة هي نفسها انشغالات البسطاء من عامة الشعب وطبقاته الوسطى.
وأحيانا تبدو انشغالات الأثرياء صادمة عندما تنحدر إلى مستويات من الجشع غير مسبوقة، أو من السلوكيات المنحطة، كاشفة عن وجه بشع يجسد الفقر الحقيقي الذي يعاني منه هؤلاء، أي فقر الروح. وهو الفقر الذي يفضح انفصال أصحابه عن المجتمع الذي يعيشون فيه وعيشهم داخل ما يشبه فقاعة لا علاقة لها بالواقع اليومي لعامة الشعب.
ولعل المثال الذي قدمته حرم مدير بنك كبير عندما أخرجت كلبها المدلل من القفص وأجلسته فوق طاولة كرسيها الوثير بالدرجة الأولى في الطائرة في تحد واضح لقوانين الطيران ودون أدنى اعتبار لسلامة وراحة بقية الركاب، مثال على مدى انفصال بعض محدثي النعمة عن محيطهم.
فيبدو أن الحرم المصون، في غمرة إدمانها على أسفار درجة الأعمال، نسيت عندما كان زوجها يستعمل الطوبيس في تنقلاته من سباتة إلى مقر عمله بالبنك في أولى أيامه.
في المغرب، لدينا أمثلة صادمة على هذا الفقر الروحي المدقع الذي وصل إليه بعض كبار الأثرياء، بحيث أصبحوا قادرين على ارتكاب حماقات مثيرة للتقزز فقط من أجل تلبية جوعهم ونهمهم الكبير لجمع المزيد من الأموال، في الوقت الذي يرون فيه كيف تزداد مساحة الفقر اتساعا سنة بعد أخرى.
أحد هذه الأمثلة الساطعة على الفقر الروحي المدقع أعطاها الملياردير عثمان بنجلون، الذي يملك ثروة لا يستطيع هو نفسه أن يعدها.
فبعدما استطاع قبل سنوات أن يستصدر أمرا قضائيا بمنع ابن أخيه من مغادرة التراب الوطني في القضية التي رفعها ضده من أجل إلغاء حقه في الإرث من والده عمر بنجلون، أخ عثمان بنجلون، ها هي محكمة الاستئناف بالدار البيضاء وبعد 14 سنة من التقاضي، تحكم الخميس الماضي بصحة نسب منير بنجلون، معتبرة إياه ابنا شرعيا لعمر بنجلون أخ عثمان.
والملياردير بنجلون لم يقف عند حد رفع دعوى إسقاط النسب عن ابن أخيه فقط، بل إنه ذهب، على عهد صديقه البلغيثي الوكيل العام للملك، إلى حد إجبار ابن أخيه منير بنجلون عن طريق النيابة العامة على الذهاب إلى مختبر «باستور» من أجل الخضوع لتحليلات ADN لإثبات النسب أو نفيه.
المشكلة أن مقارنة ADN الابن بتحاليل ADN الأب تستوجب إخراج الراحل عمر بنجلون، أخ عثمان بنجلون، من قبره من أجل استخراج عينة من ADN رفاته.
ويبدو أن الملياردير عثمان بنجلون ليس لديه أي مشكل في نبش قبر أخيه وإخراجه من جديد لإجراء التحاليل عليه. فمن أجل الحصول على ثروة أخيه يستطيع هذا الرجل، الذي يعطي نفسه اسم «الجنتلمان»، فعل أي شيء.
ما هي القصة بالضبط؟
القصة بدأت عندما مات الحاج عباس بنجلون وترك ابنين وبنتين. حصل الابن عثمان بنجلون على 40 في المائة من الإرث، وحصل عمر بنجلون على 40 في المائة، فيما حصلت البنتان على 10 في المائة لكل واحدة منهما.
وبما أن عمر بنجلون لم يكن له أبناء فقد تبنى طفلا اسمه منير وسجله في الحالة المدنية وأعطاه اسمه.
وعندما توفي عمر بنجلون كان أول من أخذ منير في حضنه أمام المعزين الذين تحلقوا حول قبر والده عمر، هو «عمه» عثمان بنجلون الذي بللت دموعه الساخنة جلباب الابن.
خلال تشييع جنازة عمر بنجلون اعتقد الجميع أن أخاه عثمان سيكون بمثابة الأب بالنسبة إلى منير. لكن الجميع شعر بالصدمة عندما كلف عثمان بنجلون محاميه في اليوم الموالي لدفن أخيه برفع دعوى في المحكمة للطعن في نسبة الابن إلى أخيه وعدم أحقيته في الإرث، مشككا في صحة الوثيقة التي سجل بها أخوه ابنه في دفتر الحالة المدنية.
هكذا ستؤول ثروة عمر بنجلون منطقيا إلى أخيه عثمان بنجلون إذا استطاع إصدار حكم بعدم شرعية أبوة أخيه لمنير بنجلون.
وهكذا اتضح للجميع أن دموع عثمان بنجلون التي بللت جلباب ابن أخيه في المقبرة لم تكن سوى دموع تماسيح.
المشكلة التي طرحت هي أن إخراج رفات عمر بنجلون من قبره لإجراء التحاليل عليه يتطلب إذنا من الورثة، وبما أن الوريث الوحيد لعمر بنجلون هو منير بنجلون، فمن المنطقي أنه سيرفض إعطاء الإذن باستخراج والده من قبره.
لكن السؤال الذي يطرحه الجميع في صالونات الرباط والدار البيضاء المخملية، هو ماذا يريد عثمان بنجلون، الذي يضع رجلا في الدنيا ورجلا في القبر، بحكم أنه يشرف على التسعين من العمر، أن يصنع بثروة أخيه؟
ألا تكفيه ثروته الكبيرة لكي يعيش الفترة المتبقية له والتي تفصله عن اللحاق بأخيه في المقبرة العائلية؟
واضح أن حسابات بعض الأثرياء ليست هي حسابات البسطاء من الناس، فهؤلاء «الفقراء» الذين يعانون من آفة جمع المال من المهد إلى اللحد يصبحون عبيدا للدرهم، إلى درجة أن هذا الدرهم يصبح غاية وجودهم ومبرر حياتهم.
من أجل المال، يستطيع بعض الأثرياء التضحية بعلاقة الأبوة والأخوة وكل العلاقات الإنسانية والأسرية، كاشفين عن الوجه الأكثر بشاعة للفقر الروحي المدقع الذي يعانون منه.
إن مثل هذه القصص المثيرة للغثيان تكشف عمق الانفصال الكبير الذي يعيشه جزء كبير من الطبقة الثرية المغربية عن هموم ومشاكل وانشغالات الطبقات البسيطة والوسطى.
فإذا كانت البورجوازية في الدول الديمقراطية هي التي تصنع المعرفة والثقافة وتحمي الأفكار التقدمية والتحررية وتقود التغيير ضد التسلط والاستبداد، فإنها في الدول العربية والإسلامية، ومنها المغرب، تعيش وسط فقاعتها الخاصة، في شبه عزلة تامة عن الشعب، معطية الدليل على أنها بورجوازية هجينة جمع جزء كبير منها ثروته بطرق مشبوهة.
أشباه الملياردير عثمان بنجلون كثيرون في المغرب. وعوض أن يخصصوا جزءا من ثروتهم للمشاريع الخيرية التي تستفيد منها شرائح المجتمع الأكثر فقرا، نرى كيف ينشغل في آخر أيام عمره بالبحث عن استصدار قرار قضائي نهائي طمعا في الحصول على إرث ابن أخيه.
والحقيقة المرة التي يعرفها بنجلون والسيدة حرمه، ماريا أمزيان ابنة المارشال أمزيان، هي أن ثروتهما ستذهب أدراج الرياح بعد مماتهما.
والمليارديران يدفعان اليوم ثمن قرارهما حبس ابنيهما في مدرسة داخلية بسوسيرا حيث ظلا يدرسان فيها بعيدا عن محيطهما الأسري، ما جعل منهما ابنين منفصلين عن والديهما لا يتذكرانهما إلا عندما يحتاجان إلى المال.
وإذا كان الابن كمال بنجلون متفرغا كليا لحياته البوهيمية في أدغال الأمازون، فإن أخته متفرغة لإفشال كل المشاريع التي يصرف عليها والدها الملياردير مبالغ مالية طائلة، آخرها شركة للإنتاج السينمائي في هوليوود كلفت الفلسطيني «الراضي»، المكلف بصفقات البنك بمدريد و«مشاوير المدام أمزيان»، ملايير الدولارات بلا نتيجة.
أما الابن البوهيمي كمال بنجلون، والذي لا يريد أن يسمع شيئا عن والديه، فقد شيد له والده إقامة في ماربيا بإسبانيا مجهزة بمطار خاص بهبوط وإقلاع طائرته الخاصة، ومع ذلك فالابن يفضل أدغال الأمازون على شواطئ ماربيا.
عندما تسمع مثل هذه القصص الدرامية لبعض الأثرياء مع أبنائهم، تكتشف أن الثروة الحقيقية هي محبة الناس، فكثير من الأثرياء يحبهم الناس لمالهم وجاههم ووجاهتهم، وليس لذواتهم.
غير أن حب الناس لا يشترى بالمال، حتى ولو صرفت من أجله كل أموال الدنيا، فهو ثروة يمنحها الله لمن شاء.
والحمد لله أن الأمر كذلك، وإلا لضم الأثرياء محبة الناس إلى ممتلكاتهم وكدسوها في بنوكهم لكي يحصلوا على فوائدها.