رشيد نيني
ليس معهدا عاديا ذلك الذي نشر قبل أيام دراسة تتهم رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران بتشجيع الشباب المغربي المحبط على الالتحاق بصفوف «داعش»، بل إن الأمر يتعلق بمعهد رصين هو:
«Royal United Services Institute for Defence and Security Studies».
وحسب الدراسة التي نشرها هذا المعهد الملكي البريطاني، فإن ادعاء رئيس الحكومة بأن هناك جهات تمنعه من العمل، رغم أنه حاز ثقة الشعب، يعطي انطباعا للشباب بأن السياسة ليست وسيلة فعالة لممارسة السلطة، ولذلك يجب البحث عن وسائل أخرى للتغيير، منها الالتحاق بالتنظيمات المسلحة في مناطق النزاع.
والواقع أن هناك، في خطاب رئيس الحكومة، نبرة جهادية تستمد لغتها من معجم ملحمي يجعل المستمع لكلامه واقعا تحت تأثير أجواء حربية.
أليس هو القائل قبل أشهر في مراكش أمام ثلاثة آلاف من شبيبته، «وخا يعيش السي عبد الإله، وخا يموت السي عبد الإله، وخا يتقتل السي عبد الإله، غانستمرو على هاد الطريق إلى النهاية»؟
ثم أليس هو القائل لشبيبته في اللقاء نفسه محرضا إياهم على الموت في سبيل الله، «ألم تكونوا تقولون في سبيل الله ما أحلى المنون؟ آن الأوان لكي تعطوا الدليل على ما كنتم تقولون»، قبل أن يختم رئيس الحكومة كلامه أمام الحشد بالآية الكريمة «ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون».
فأي تحريض على الاحتراب والموت في سبيل الله أكثر من هذا؟
ولسوء حظ الحزب الحاكم أن التقرير البريطاني صادف إحضار مستشارة تنتمي للحزب ذاته لجرافة من أجل هدم منصة كان من المفترض أن تعزف فوقها فرقة موسيقية، يبدو أنها لم تحصل على ترخيص بذلك. وهي إشارة سلبية تأتي أسابيع قليلة على هجوم مسلحي باريس على قاعة موسيقية وإرداء ما يزيد عن ثمانين قتيلا داخلها.
ومع ما يحدث حولنا في العالم، بسبب جهلة يفسرون الدين حسب عقدهم مع ما يتناسب وبرامج القوى العالمية في المنطقة العربية، فإن لغة رئيس الحكومة الجهادية وقرارات بعض مستشاراته المتحمسة، فضلا عن سلوكيات ومواقف سابقة لقياديين في الحزب وذراعه الدعوية، يجعل الأنظار المتوجسة تتجه نحو تنظيمهم.
وطبعا فالتنظيم الحاكم شعر بثقل هذه الأنظار، لذلك أطنب قياديوه في إدانة الإرهاب بشكل مثير للريبة.
لكن هذا الحماس الزائد عن حده في إدانة الإرهاب، لن ينسي المتتبعين تلك الزيارة التي قام بها وفد من الحزب الحاكم لجبهة النصرة بسوريا بوساطة تركية قبل ثلاث سنوات، والجميع يعرف من هم جبهة النصرة اليوم.
ولعل ما يقع للسيد عبد الإله بنكيران داخل حزبه وخارجه اليوم جدير بالتأمل، فالرجل يشد بالنواجذ ويعض عليها ليبقى لولاية ثالثة كزعيم للحزب، لأن بوصلته السياسية وجنوده وقراء فناجينه جزموا له بأن العدالة والتنمية سيبقى القوة السياسية القائدة للحكومات الخمس القادمات، رغم الظرفية العالمية غير الملائمة.
ولأن السلطة أخرجته من الظلمات السياسية إلى النور، ولأن دفء المنصب وما يتيح له من إمكانات كبيرة في التوسع السياسي، منحاه السلطة والثقة، فقد زمجر بنكيران في وجوه مواليه ومرافقيه وإخوانه في الحزب ليجعلوه واليا حزبيا عليهم للمرة الثالثة ضدا على منطوق مقرراتهم وأنظمتهم الداخلية ومنهجيتهم الديمقراطية، والحق يقال، في التناوب على السلط الحزبية.
الفقيه السوسي الدكتور العثماني، والفقيه الدكالي الأستاذ الرميد، وجميعنا يعرف كم نفوذ السوسيين والدكاليين كبير في الحزب، لم يخفيا تجهمهما من هذا البطش السياسي الجديد لزعيم الحزب، لدرجة خرج فيها العثماني بتصريح سياسي نافذ مفاده عدم المجازفة باللعب بالحزب ومقوماته الديمقراطية التي ظلت هي مركز ثقل الحزب وقوته، بحيث كتب مقالا طويلا يشرح فيه فكرة أن قوة العدالة والتنمية هي التنظيم والنظام، وإذا ما غامر الحزب في تلخيص هويته في شخص بعينه فسيسقط المشروع «الخلافي» في الشخصنة السياسية كما سقطت فيه أحزاب كثيرة، ملمحا للمأزق الذي دخل فيه العدالة والتنمية التركي بسبب الإفراط في تمجيد شخص أردوغان.
ولأن العثماني هادئ وموضوعي أكثر من بنكيران، فإنه كان أول من وصل للافتراض بأنه إذا ما وقع مكروه «سياسي أو جنائي أو مخابراتي» لأردوغان في معركته الخطيرة مع الروس فماذا سيحل بحزب العدالة والتنمية التركي بعد ذهابه؟
الرميد لم ينس ما فعله معه بنكيران في أول مراحل تشكيل الحكومة عندما أخبره بـ«اعتراض» أجهزة عليا في البلاد على استوزاره.
ومازلت أتذكر كيف جاء الرميد يزورني في السجن وكم كان متجهما ويائسا من السياسة وأهلها، وقد قال لي حينها إنه قرر اعتزال العمل السياسي لأن الدولة غير جادة وأن العبث هو السائد.
بعد أسبوع جاء الرميد لزيارتي من جديد، لكنه في تلك المرة الثانية جاء باسما مستبشرا بجلبابه الحريري الأبيض، فاعتقدت أول الأمر أنه يحمل إلي خبرا سارا، لكنه صدمني عندما أخبرني بأن هذه الزيارة لي ستكون آخر زيارة، لأن منصبا حكوميا ينتظره ولن يكون بمستطاعه أن يتبنى ملفي بعد اليوم.
اندهشت من هذا التغيير المفاجئ في مواقف الرجل، فبالأمس كان يائسا متذمرا من كل شيء، واليوم أصبح متحمسا متفائلا بما يعتقده خيرا قد وجده.
فهم الرميد أن فعلة بنكيران هذه هي نفسها الفعلة التي قام بها محمد اليازغي مع إدريس لشكر في بداية تشكيل حكومة عباس الفاسي.
وقد تبين للرميد كما لإدريس لشكر أنهما يشتركان في «ضخامة» الخطابة وقوة التجييش والانضباط للتنظيم وتوسع القواعد، وبالتالي كان بنكيران يعي منذ البدء بأن الرميد هو أكثر من يقدر على «تشطيبه» من الرئاسة، وربما من الحزب، وهو ما يبدو أن الرميد، بمساعدة من رباح وجنوده، استطاع الوصول إليه أو يكاد.
عبر الكثير من القادة السياسيين عن أن استحقاقات 2011 ونتائجها شكلت دهشة لحدود «الرعشة» بالنسبة لقادة العدالة والتنمية أنفسهم لدرجة تم الحديث في كواليس الكثير من الأحزاب كالاستقلال والاتحاد الاشتراكي والبام، عن وجود جرعات «منشطة» مكنت العدالة والتنمية من تجاوز عتبة 100 مقعد بالبرلمان.
وهو الحزب الذي يعي كل الوعي بأن كل نتائج الاقتراع المتعلقة به كان يتحكم في جرعاتها من طرف المخزن منذ 1993. وحتى بنكيران لولا تدخل إدريس البصري سنة 1992 لما وصل باب البرلمان حينها عندما تم تعويضه بشكل قسري بمقعد أحد المرشحين الاتحاديين، الذي بدوره تمت مجازاته بحقيبة وزارية في ما بعد.
الآن وبعد مرور عاصفة الربيع العربي عن المغرب بدون خسائر كبرى بدأ العدالة والتنمية يعود إلى مكانته الأصلية بذكاء لأنه تلقى ومضات وإشارات واضحة، أهمها «الحصار» المفروض اليوم على العدالة والتنمية التركي بسبب تورطه في تفريخ جماعات متطرفة في حدود سوريا وإمدادها بالعتاد البشري والعسكري واللوجيستيكي مقابل استفادته من «غنائم النفط».
وعندما يتم اتهام روسيا وإيران لتركيا بدعمها لداعش، فهي إشارة إلى أن كل حكومة إسلامية عربية تتعامل مع تركيا ستكون موضوع نفس صكوك الاتهام. لذلك فالظرفية الجيو سياسية التي سرعت بظهور حكومة إسلامية بالمغرب ربما ستسرع بأفولها.
الإشارة الثانية والقوية تلقاها من حليفه في الحكومة وهو الأحرار، بدءا من مشكل صندوق التنمية القروية مع وزيري الفلاحة والمالية، وانتهاء بتصريحات مزوار الذي يردد في كل مكان أن تواجده مع بنكيران هو تواجد يشبه «زواجا سياسيا غير شرعي» مآله الطلاق.
أما الإشارة الثالثة والخطيرة فهي الورقة التي يلعب بها اليوم حزب الأصالة والمعاصرة الذي أجاد ركوب أمواج الربيع العربي وأفوله ليتهم العدالة والتنمية بتشويهه لسمعة المغرب، لما يحمله مشروعه السياسي من أخونة للمجتمع وللسياسة.
وطبعا لم يبق الميني شيوعي نبيل بنعبد الله محايدا إزاء هذا السلخ الجماعي للحزب الحاكم، من طرف المعارضين والحلفاء على حد سواء، فسمعنا الرفيق نبيل، الذي فهم السمفونية العامة للتوجه السياسي الجديد، يعبر عن عدم توافقه الإيديولوجي مع الإخوان المسلمين المغاربة.
فهل سيتشبث بنكيران بولاية ثالثة على رأس الحزب لكي يطالب بولاية ثانية على رأس الحكومة في حالة ما إذا حقق حزبه الفوز في الانتخابات التشريعية المقبلة، أم أنه سيجمع أغراضه ويعتزل السياسة لكي يحقق حلمه القديم في أن يصبح داعية في حركة التوحيد والإصلاح، فاسحا المجال أمام الرميد ورباح لكي يقودا المرحلة النهائية للحزب نحو الذوبان في كوب السلطة؟
هذا هو السؤال، كما قال شكسبير ذات مسرحية.