رشيد نيني
أفضل من يلخص ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط والدول العربية من حروب هو «بول فاليري» الذي قال «الحرب مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض لصالح أناس يعرفون بعضهم البعض ولا يقتلون بعضهم البعض».
لقد كانت فرنسا من أكبر الدول حماسا لإسقاط بشار الأسد ولو تطلب الأمر تدمير سوريا كلها فوق رؤوس السوريين، وهو ما حدث فتشتت الشاميون في الأرض هائمين على وجوههم، وأصبحوا يهود التاريخ المعاصر.
والواقع أن فرنسا تحارب روسيا في سوريا وليس بشار الأسد، لكونها تعتبر هذا الأخير مجرد ديكتاتور صغير يعمل لصالح بوتين.
لكن متى كانت فرنسا ضد الديكتاتوريين والديكتاتوريات، هي التي كانت إلى حدود الأمس تتغنى بالنموذج التونسي البوليسي على عهد بنعلي، واستقبلت القذافي في «الإليزي» بخيمته وجنونه، وفرشت السجاد الأحمر لبشار الأسد وزوجته في قلب أفخم مطاعم باريس وأفردت لهما «باري ماتش» أطول روبورتاج مصور.
أليست فرنسا هي التي احتضنت أشد الديكتاتوريين الأفارقة دموية، إدريس ديبي، دينيس ساسو نغيسو، بول بيا وبقية الطغاة؟
ثم كيف تبرر فرنسا قصفها لسوريا بكونها تريد تحرير السوريين من طاغية متسلط، وهي تعقد الصفقات مع دول شرق أوسطية لا يقل زعماؤها ديكتاتورية عن نظام بشار؟ هل قطر دولة ديمقراطية مثلا، أم أن «مؤسسة قطر» للشيخة موزة أعمت عيون الساسة الفرنسيين بشيكاتها إلى درجة جعلتهم ينسون أن النظام القطري اعتقل شاعرا بسبب قصيدة، مجرد قصيدة؟
إن «داعش» التي يريدون محاربتها اليوم لم تسقط من السماء، بل إنهم صنعوها مثلما يصنعون الفيروسات في مختبراتهم، المشكلة أن فيروس «داعش» هرب من المختبر وانتشر وأصبح يهددهم بالعدوى، تماما مثلما هرب في الفيلم الشهير المسخ «فرانكشتاين» من مختبر العالم المهووس الذي صممه.
إنهم يعيدون تكرار الخطأ السياسي الفادح نفسه، الذي ارتكبه الأمريكيون على عهد ريغان خلال الثمانينات، عندما سلحوا الأفغان وساعدوهم في حربهم الطويلة مع الروس من أجل إخراجهم من أفغانستان.
وفي الأخير عندما انتصر الأفغان على «العدو» الروسي، اضطر البيت الأبيض على عهد بوش إلى الذهاب إلى أفغانستان للقضاء على من أسماهم «الإرهابيين»، الذين كان يسميهم في إعلامه «المجاهدين» عندما كانوا يحاربون عدوه الروسي اللدود بالوكالة.
كثيرون تساءلوا عن سبب إهدار الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين لكل هذه الميزانيات من أجل التواجد فوق الأرض الأفغانية الجرداء وصعبة التضاريس.
الجواب نشرته جريدة متخصصة في الأخبار العلمية المتعلقة بالاكتشافات المعدنية، من خلال خبر صغير حول أفغانستان لم ينتبه إليه كثيرون. يتعلق الأمر باكتشاف مخزون هائل في باطن الأرض الأفغانية من المعادن النفيسة، أهمها الذهب والفضة والنحاس والحديد.
إذن، فهذه البلاد التي لا تنمو فيها ولا تزدهر سوى زراعة الأفيون، هذه البلاد التي اشتهرت بفقرها وقسوة طبيعتها واحتراف أهلها الحروب كمهنة أبدية، ليست بلادا فقيرة في نهاية المطاف، بل هي إحدى أغنى بلدان العالم بفضل ثرواتها المعدنية الطبيعية المندسة تحت جبالها الوعرة.
والاكتشاف العلمي الأخير يكشف الوجه الحقيقي للوجود الأمريكي المكلف في أفغانستان، فمحاربة الإرهاب وطالبان ليست سوى ذرائع للتواجد في هذه المنطقة الغنية بالمعادن النفيسة وإحكام السيطرة عليها لتحريك العجلة الصناعية الأمريكية، ومجابهة المنافسة الآسيوية التي تقودها الصين وبقية الدول ذات الاقتصاديات الناهضة، وفي الآن ذاته سد الطريق أمام الروس.
لقد كشفت الأيام أن الاحتلال الأمريكي للعراق لم يكن بغاية حماية العالم من أسلحة الدمار الشامل، التي صنعها صدام حسين، بل فقط لتقسيم العراق من أجل السيطرة على مصادر النفط والغاز فيه. فالمنطقة الوحيدة الآمنة في العراق، التي لا تسمح أمريكا بالاقتراب منها، هي مناطق حقول البترول والغاز.
وبإحكامها السيطرة، عسكريا وسياسيا، على أهم مصدر لإنتاج البترول وأكبر احتياطي معادن في العالم، تكون أمريكا قد أحكمت قبضتها على مفتاحين مهمين من مفاتيح المستقبل.
ولعل المجهود الكبير الذي يبذله البيت الأبيض عبر إعلامه والسينما المجندة لخدمته، التي يتحكم فيها اللوبي الصهيوني الموالي لإسرائيل، هو كيف يغلف هذا الوجود الاستعماري فوق أراضي الغير بغلاف الدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، من أجل تضليل الرأي العام العالمي وإبعاده عن التفكير في الأسباب الاقتصادية الحقيقية لتواجده في العراق وأفغانستان وفي ليبيا اليوم، هذا التواجد العسكري الذي يباركه الرؤساء، الذين يأتي بهم الجيش الأمريكي فوق الدبابات لكي ينصبهم فوق كراسي الحكم، مثلما وقع مع المالكي في بغداد بعد سقوطها واحتلالها، أو مثلما وقع في كابول عندما نصب البيت الأبيض «كرزاي.»
الأمريكيون ليس لديهم أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، وإنما مصالح دائمة. وعندما يشعرون بأن «رجلهم» في منطقة ما احترق، فإنهم يسارعون إلى نفضه مثل أعواد الثقاب المحترقة.
إنها اللعبة الأمريكية في أفغانستان تتكرر اليوم في سوريا، مع تغيير بسيط في الأسماء والتواريخ والأمكنة.
فعندما كانت مصلحة أمريكا تقتضي التحالف مع الأفغان لتكسير مخالب الدب الروسي الأحمر، أطلق الإعلام الأمريكي لقب «المجاهدين» على المقاتلين الأفغان، وطلبت الإدارة الأمريكية من الدول العربية الحليفة أن تشجع مواطنيها الراغبين في الذهاب إلى جهاد الكفار الروس الملحدين على التوجه نحو أفغانستان.
ولعل من كان يرتاد المساجد المغربية في تلك الفترة يتذكر كيف كان الدعاء بالنصر للمجاهدين الأفغان يتم بشكل منتظم في كل المساجد خلال يوم الجمعة.
وكان مسجد «النور» بالدار البيضاء قبلة المغاربة الذين يريدون الذهاب للجهاد في أفغانستان.
كما تسربت إلى الأسواق أشرطة فيديو مصورة تسجل عمليات مداهمة المجاهدين الأفغان لدبابات الروس، ونجاحهم في سحق الدب الأحمر بأسلحة بدائية وتقليدية. وبالموازاة مع ذلك، خاضت «هوليوود» ووسائل الإعلام الأمريكية حملة لتلميع صورة المجاهدين الأفغان وتقديمهم كمقاتلين من أجل الحرية يتعرضون لحرب إبادة من طرف الشيوعيين. والواقع أن الانتصارات التي حققها المجاهدون الأفغان ضد الجيش الروسي لم تكن لتحدث بدون تجهيز المجاهدين بصواريخ «شتينغر» المضادة للطائرات، فأصبحت الطائرات الروسية تتهاوى تحت قاذفات الصواريخ المحمولة فوق أكتاف المقاتلين الأفغان مثل البعوض في الأودية السحيقة.
وتحققت المعجزة، وانتصر المجاهدون العزل على أكبر وأقوى جيش في التاريخ. لكن عندما اقتضت المصلحة الأمريكية القضاء على هؤلاء المجاهدين، حولتهم بسرعة في إعلامها وعبر آلة «هوليوود» الجهنمية إلى إرهابيين. وتحول المجاهدون إلى طالبان، وجاءت هذه المرة طائرات الـ«بي 25» لكي تدك بقنابلها العملاقة أجواف الجبال نفسها التي تساقطت فوقها الطائرات الروسية، فوقع لطالبان مثلما وقع لصدام حسين عندما كان يقاتل إيران لحساب أمريكا والدول العربية النفطية، فعندما اقتضت مصلحة هؤلاء دعم العراق قدمت له الدول الأوربية وأمريكا المال والسلاح. فالجميع كان يريد إيقاف الخطر الشيعي وفكرة تصدير الثورة التي نادى بها الخميني. وحتى عندما استعمل صدام غازات محظورة دوليا في الحرب ضد إيران، صمت الجميع لأن الغاية تبرر الوسيلة.
وعندما اقتضت مصلحة أمريكا إسقاط صدام حسين من عرشه، اجتاحت القوات الأمريكية العراق، بمساندة الحلفاء وبمباركة من جيران صدام، الذين كانوا يرتجفون خوفا منه ومن بطشه، فاعتقلوه وأخرجوه من الحفرة التي كان يختفي داخلها وضربوه وأهانوه وقدموه لمحاكمة هزلية قبل أن يسلموه إلى ألد خصومه لكي يشنقوه يوم عيد الأضحى أمام أنظار العالم، حتى يكون عبرة لمن لا يعتبر.
ولعل الجميع يتذكر كيف استقبلت هيلاري كلينتون ابن العقيد القذافي في البيت الأبيض استقبال الأبطال، وكيف ظل طوني بلير يشتغل كموظف صغير لمصلحة القذافي مقابل راتب وعمولات، وكيف قبل برلسكوني يد القذافي بأدب بالغ، مقدما للشعب الليبي اعتذار الشعب الإيطالي عن سنوات الاحتلال، وكيف اعتذرت سويسرا للقذافي بسبب تطبيقها القانون واعتقالها ابنه الذي عذب خادمه المغربي وضرب زوجته. ورأينا كيف استقبل ساركوزي العقيد القذافي في باريس في اليوم العالمي لحرية التعبير، وكيف أقفلت الجمهورية عيونها عن جرائم العقيد من أجل حفنة من الصفقات وبراميل النفط.
واليوم يجتمع كل هؤلاء الذين وقعوا صفقات مع كل الديكتاتوريين من أجل الإطاحة ببشار الأسد من سوريا، وتسليم البلد للإرهابيين المتنكرين في ثياب الثوار، والذين يسلحهم ويدربهم عملاء وكالة الاستخبارات الأمريكية.
سيكون صعبا علينا أن نقتنع بأن كل هذه «التضحيات» التي تقوم بها أمريكا ومعها فرنسا وحلفاؤها ليست وراءها سوى مصلحة الشعب السوري والشعب الأفغاني والشعب العراقي، إلا إذا كان هؤلاء المنافقون يعتقدون أننا أغبياء إلى هذا الحد، وتلكم حكاية أخرى.