لعل عددا كبيرا من المتورطين في ملفات السطو على عقارات الغير، سواء كانوا أجانب أو مغاربة، تنفسوا الصعداء بعد مطالعتهم للبلاغ الأخير لوزير العدل والحريات والذي يكشف عن خلاصات ما أسفرت عنه اجتماعات لجنة تم تشكيلها على عجل بعد الرسالة الملكية التي طالبت الوزير بالتحرك العاجل للتصدي لمافيا العقارات.
ذلك أن مجمل المقترحات التي أسفرت عنها اجتماعات اللجنة لا تعني بالنسبة للذين اغتنوا من نهب عقارات الغير تضييقا على مجال نشاطهم الأساسي وهو تزوير ملكيات عقارات إلى حين التفكير في خطط شيطانية أخرى، والحال أن الوزارة لم تتحدث عن جوهر المشكل وما الذي يتعين القيام به حاليا لمحاسبة متهمين بالسطو على أملاك مغاربة وأجانب بوثائق مزورة.
تعج محاكم المملكة بعدد من هذه الملفات، وفي كثير منها لا تجري متابعة الأشخاص الذين آلت إليهم العقارات بعد تزويرها بحجة أنهم مجرد مشترين يتمتعون بحسن النية كما ينص على ذلك القانون الذي ظل معمولا بها وتسلل عبر ثغراته أفراد مافيا العقار.
لذلك فقد كان أولى بالوزير ولجنته أن يسارعوا إلى سد هذه الفجوة وتنزيل إصلاح تشريعي وقضائي يوسع دائرة النظر القضائي في ملفات العقارات المزورة لتشمل المشترين، الذين يظهر أن كثيرا منهم هم المستفيدون من وقوع التزوير، وليس المتورطون فعليا في التزوير الذين لا يظهر لهم أثر في بعض الملفات لأنهم مجرد شخصيات وهمية لا وجود لها على أرض الواقع.
ومباشرة بعد توجيه الملك محمد السادس رسالة تأمر وزير العدل بتتبع هذا الموضوع الذي وصلت روائحه إلى الخارج تحركت عدة ملفات ظلت راكدة حتى غمرها غبار رفوف المحاكم، وشرعت النيابة العامة في استدعاء متهمين واتخاذ قرارات متابعة واستنفار الضابطة القضائية للتحقيق في شكاوى مواطنين لم يكن ليلتفت إليها لولا الرسالة الملكية.
بيد أن تحرك القضاء إزاء ظاهرة السطو على العقارات، وفق تجلياتها التي حددتها الرسالة الملكية بدقة، لا يجب أن ينساق وراء الملفات على نحو معزول، بل يجب أن يندرج النظر القضائي في هذا الموضوع ضمن سياسة جنائية متكاملة تتقصى في كيفية تحويل شبكة من المزورين لمساطر ومؤسسات إدارية وقضائية إلى وسائل للسطو على أملاك الناس بمجرد وثيقة مصطنعة أو إمضاء ملفق.
إن موضوع تزوير ملكية العقارات لا يتعلق بملفات وشكاوى معزولة، بل بممارسة منظمة، وهذا ما خلصت إليه أبحاث الفرقة الوطنية وقضاة التحقيق الذين تعاقبوا على البحث في هذا الملف منذ سنة 2011 على الخصوص.
وقد تبين للمحققين أنه في نهاية كل عملية تزوير تستهدف ملكية عقارية يظهر منعشون عقاريون وأرباب شركات عقارية وأثرياء جدد من محدثي النعمة كمشترين تؤول إليهم العقارات وتصعب متابعتهم وانتزاع ما حازوه منهم لأنهم يدعون في كل مرة أنهم مشترون بحسن نية ولا علم لهم بأن العقار كان موضوع تزوير في سندات الملكية.
بيد أن محكمة النقض، ورغم أنها في الأصل محكمة قانون، اختارت السير في اتجاه معاكس تماما لسير قضاء التحقيق والشرطة القضائية التي تخصصت في الملف واشتغلت عليه ميدانيا، فقد برز رأي قضائي داخل غرف محكمة النقض قبل أيام يقر أمر «حسن النية» في ملفات تزوير العقارات، وهو ما يستلزم متابعة المزور وتبرئة المشتري الذي آل إليه العقار المزور في النهاية.
الأمر يعني أنه يتعين على المالك الأصلي للعقار أن ينسى أمر استرجاع أملاكه وبدل ذلك يدخل في حرب مساطر لا تنتهي مع متهم بالتزوير، وإن كان قد حالفه الحظ فستخرج المحافظة العقارية، حيث يجري تفويت ملكيات ولو بوثائق مزورة أحيانا، لتقر للمتضرر مبلغا ماليا مدفوعا من جيوب دافعي الضرائب، كما حدث قبل مدة بالرباط.
إن إقرار هذا الرأي القضائي يعني التوقيع على بياض لأشخاص متورطين في ملفات سطو على عقارات، وضمنهم شخصيات وازنة حتى في عالم القضاء آلت إليهم ملكيات عقارات بعضها موضوع تحقيق قضائي حاليا.
والمثير أن هذا التوجه الذي قد يكون آخر منفذ يتسلل منه متورطون ضمن مافيا عقارات الأجانب ويتجنبون عبره المتابعة هو مناقض لطرح الرئيس الأول لمحكمة النقض بنفسه، والذي تحدث، خلال مداخلة له في الموضوع أعقبت الرسالة الملكية الشهيرة، قائلا إننا «أمام عصابات ولوبيات منظمة»، موضحا أن «النوازل والوقائع تبين أن الأمر لا يتعلق بحالات فردية مبنية على الصدفة أو على ملابسات شخصية لمرتكبيها، بل الأمر تجاوز ذلك إلى عصابات ولوبيات منظمة محترفة تضم أحيانا عناصر أجنبية قد تقوم بجزء من أنشطتها حتى خارج التراب المغربي»، بل إنه زاد موضحا كيفية تورط رجال قانون في الموضوع قائلا إن هذه الظاهرة تمارس عبر «أشخاص محترفين في رصد الثغرات القانونية والتجاوزات الإدارية، وتصيد ضعاف النفوس من موظفين ومهنيين وقانونيين من أجل مساعدتهم على الاستيلاء على عقارات الغير، إما زورا أو احتيالا ونصبا».
لقد رفع الملك محمد السادس سقف التحرك المفترض إزاء ملف السطو على العقارات عاليا وهو ما يفرض على القضاء والمشرع تحمل مسؤوليته على الأقل من خلال تفعيل خطوات سطرها رئيس محكمة النقض لتدارك الهفوات التي استغلها مزورون للحصول على عقارات فاخرة، وأولها إقرار إصلاحات عميقة في مدونة الحقوق العينية والتي تكرس، حسب الرئيس الأول لمحكمة النقض، «أوضاعا غير منطقية»، وبينها مثلا تحديد أجل رفع دعوى للمطالبة بحق بعد الاشتباه في الاستيلاء على أراض ضمن الملك الخاص للدولة في أربع سنوات فقط، ما يعني أنه لا يمكن التحرك في حال اكتشاف عملية تزوير استهدفت عقارا بعد أربع سنوات من وقوع التزوير.
إنها لمهزلة حقيقية لصورة المغرب وضرب في العمق للاستثمار أن ينصح وزير العدل مصطفى الرميد كل من يملك عقارا بأن يضرب فيه «الفكد» في المحافظة العقارية مرة كل أربع سنوات حتى لا تسطو عليه مافيا العقار وتبيعه وتحفظه في أسماء ملاك آخرين.
ولعل المصيبة الكبرى ليست فقط في اعتراف وزير العدل بوجود المافيا في المغرب بل في ذلك القانون الذي تقدمت به حكومة عباس الفاسي وصوت عليه البرلمان بغرفتيه يومين قبل ذهاب حكومة الفاسي لحال سبيلها، وهو القانون الذي يقيد صاحب الحق إذا تضرر بسبب تدليس أو زور أو استعماله شريطة أن يرفع الدعوى للمطالبة بحقه داخل أجل أربع سنوات من تاريخ التقييد المطلوب إبطاله أو تغييره أو التشطيب عليه.
فكما لو أن وزير العدل عوض أن يطالب بإلغاء القانون رقم 39-08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية، الذي يحمي حقوق المافيا عوض حماية حقوق المواطنين، يبادر إلى تحذير المواطنين من مغبة نسيان تفقد ممتلكاتهم لدى المحافظات العقارية، ويحملهم مسؤولية ضياعها في حالة عدم القيام بمراجعة المحافظة كل أربع سنوات.
هذا القانون الذي تم التصويت عليه في اجتماع لجنة مكونة من ممثلي وزارة العدل ونواب برلمانيين انعقد بتاريخ 6 يوليوز 2011 بحضور رئيس اللجنة وأربعة أعضاء فقط من أصل 31 عضوا، يجب أن يلغى لأنه يعطي الأفضلية للمشتري بحسن النية استنادا إلى عقد مزور ويحرم منها المالك الأصلي للعقار.
ولا بد أن السيد وزير العدل وهو ينصح المواطنين بمراجعة المحافظة العقارية كل أربع سنوات للتأكد من أن أملاكهم لا تزال في حوزتهم فاته أن عددا كبيرا من المغاربة الذين لديهم عقارات في المغرب يعيشون في الخارج وليست لديهم فرصة القدوم كل أربع سنوات لتفقد ممتلكاتهم العقارية.
لذلك فالصيغة المعيبة والملتبسة لنص هذا القانون لا شك أنها ستفضي إلى خلق مشاكل يستعصي حلها، سيما إذا تعلق الأمر بالأشخاص الذين تضطرهم ظروف السفر والهجرة إلى عدم مراجعة مصالح الوكالة الوطنية للمحافظة على الأملاك العقارية للاطلاع على الرسوم العائدة لهم، حيث بالإمكان أن تمر أربع سنوات أو أزيد على إدراج تقييدات بالرسوم المذكورة بناء على وثائق مزورة، وعند اكتشاف هذه الوضعية يسقط حق المالك في المطالبة بالإبطال أو التشطيب على التقييد لمرور أربع سنوات.
لذلك فحل ملف مافيا السطو على العقارات يبدأ بإسقاط هذا القانون، والباقي كله يسهل حله، لأن الأصعب في كل هذه الحكاية هو توفير الحماية القانونية لمن يمارس السطو وحرمان أصحاب الأملاك منها.