هناك مغالطة كبيرة يروجها البعض منها أن القصر نجح في تفجير حزب العدالة والتنمية من الداخل كما صنع مع الاتحاد الاشتراكي على عهد اليوسفي وكما يفعل اليوم مع حزب الاستقلال، وأن هذا العمل يهدد القصر بالمخاطر لكونه أصبح يفتقد لـ«الإيرباغ» الواقي من الصدمات ويضعه في مواجهة مباشرة مع الشارع إذا ما تكرر سيناريو عشرين فبراير.
وقد ألمح بنكيران، الأمين العام للحزب الحاكم، إلى إمكانية عودة الاحتجاجات إلى الشارع مطمئنا النظام إلى كونه لن ينحاز لهذا الشارع إذا نزل إليه الشعب، في ابتزاز سياسي واضح لمن يعنيهم الأمر.
هذا الطرح الذي يربط بين ضعف أو إضعاف الأحزاب السياسية وخطر ذلك على الدولة، يفترض أن الأحزاب السياسية لعبت دور الواقي من الصدمة عندما خرج الشباب بالملايين في المدن المغربية للمطالبة بالكرامة والمساواة والشغل والعدالة، والحال أن الجميع رأى كيف أن الشباب اجتاح الشوارع بتلقائية دون تأطير حزبي في وقت تحصن الأمناء العامون للأحزاب داخل مقراتهم بعدما «تلف ليهم الضرب»، فقرروا التريث والانتظار حتى ينجلي غبار المعركة ويظهر «الهارب من الضارب».
إن الدولة هي من واجهت رياح الربيع العربي بالمغرب واشترت السلم الاجتماعي بتوظيف المعطلين وإقرار زيادات في رواتب الموظفين والخفض من فواتير الماء والكهرباء.
أما الأحزاب فكل ما قامت به هو أنها جنت ما زرعته الدولة مستغلة حالة الارتباك التي ظهرت عليها مؤسسات الدولة، ووجدت نفسها، خصوصا الأحزاب التي كانت مهيأة تنظيميا، تتزعم الحكومة التي أفرزتها انتخابات ما بعد تعديل الدستور.
ثم أين الأحزاب من ملف الصحراء؟
أينها من أحداث الريف اليوم؟
لقد رأينا كيف رفض المحتجون من قادة حراك الحسيمة إجراء أي حوار مع الأحزاب السياسية، أليس الحزب الحاكم في الحسيمة هو الأصالة والمعاصرة؟ لماذا يرفض المحتجون الحوار مع قادته ومسؤوليه الذين يسيرون المدينة، علما أن وصوله لمراكز التسيير بالمدينة يفترض أن الساكنة صوتت له؟
لقد أعطى وزير الداخلية السابق رقما مهولا للحركات الاحتجاجية التي شهدها المغرب، حيث وصلت 17.000 حركة احتجاجية، من يدبر هذه الحركات؟ الأحزاب؟ «لاواه الزمر»، وحدهم أعوان السلطة والقياد يوجدون في فوهة المدفع، العامل والوالي «متكي مع راسو فدارو حدا مراتو ولادو والقياد منوض فيهم الشياط بالتلفون»، ومن فرط الضغط الذي يتعرضون له أصبح كثير منهم يفكر في وضع استقالته وتغيير المهنة.
أما الأحزاب وممثلو السكان فمنشغلون بمشاريعهم الخاصة وتسمين ثرواتهم وثروات أبنائهم.
والأخطر هو أن الأحزاب ليست جزءا من الحل بل جزءا من المشكلة، فهي مسؤولة عن أغلب هذه الاحتجاجات بسبب تدبيرها السيئ لشؤون الناس الذين انتخبوا مستشاريهم والذين يطبقون سياسيات عمومية عرجاء ينتجها سياسيون عميان.
وهناك مغالطة ثانية يروجها صيارفة الحزب الحاكم، وهي أن ميزانيات وزراء حزب الأحرار تقدر بـ70 مليار درهم فيما ميزانيات وزراء العدالة والتنمية لا تتعدى 25 مليارا، وكأن الأمر يتعلق بوزراء في حكومتين متنافستين وليس بوزراء في ائتلاف حكومي واحد، وهي طريقة مبكرة لاستباق وتبرير فشل هؤلاء الوزراء من الآن تفاديا لمحاسبتهم.
أما المغالطة الثالثة فهي تلك التي كشف عنها كسر بنكيران لصومه عن الكلام أملته إكراهات ومحاذير سياسية، عندما خرج رئيس الحكومة المنتهية خلال نشاط لشبيبته ليوجه رسائله السياسية المشفرة إلى من يهمه الأمر، ومن خلال كلمة مرتجلة دامت 57 دقيقة المهم فيها ليس ما قاله بنكيران بل المسكوت عنه في ثنايا خطاب رئيس الحكومة المعزول، فكما قال أندري مالرو «حقيقة الرجل هي أولا ما يخفيه».
ومن خلال تحليل ثنايا الخطاب يظهر أن بنكيران يتظاهر بأنه لم ينته بعد سياسيا بعد إعفائه من رئاسة الحكومة، وأنه ما زال يمسك زمام الأمور ويملك المفاتيح الرئيسة للباب الرئيسي لحزبه.
كما أن الخطاب يؤكد على رغبة بنكيران في الحصول على التمديد كأمين عام مهما كان الثمن ولو على حساب الديمقراطية الداخلية التي طالما تغنى بها حزبه لحظات انتخاب وزرائه واقتراح برلمانييه.
أضف إلى ذلك أن الخطاب يخرج عما ينبغي أن يتحلى به رجل الدولة، حيث لم يحترم بنكيران واجب التحفظ المطلوب في رئيس حكومة، فبعد 20 سنة على تدبير اليوسفي لحكومة التناوب قلة قليلة تعرف خبايا تشكيل الحكومة أو لحظات الصراع التي نشبت بين اليوسفي والملك الراحل، والأمر نفسه ينطبق على حكومة جطو وعباس الفاسي.
بنكيران لم يحترم حتى «العدة السياسية» وخرج بعد شهر فقط يحكي مضامين لقاءات سرية جمعته مع مستشاري الملك في إطار مهمة رسمية.
ولعل أهم ما كشف عنه خطاب بنكيران هو الحالة النفسية لهذا الأخير، فبنكيران استعمل مفاهيم حادة وتحمل دلالات تاريخية تتطلب عند المتطرفين إقامة الحدود، فقد استعمل بعض التسميات كـ«المنافقون بالقناة الثانية»، مما يظهر نوعا من التوتر الحاد الذي يعيشه بنكيران بسبب استبعاده.
الخطاب أيضا انطوى على محاولة لنزع المشروعية عن حكومة العثماني ومباركة المنتقدين، وتشجيعا لهم على المزيد من طعن الحكومة التي يتصدرها حزبه قائلا: »لا يمكن أن نأمر أحداً بالسكوت، والحزب يجب أن يضمن الحرية لأعضائه، وإلا فلماذا يصلح»، علما أن بنكيران نفسه كمم أفواه أفراد حزبه في غير ما مرة، بل إنه نعت أفرادا من كتيبته الإلكترونية بالمداويخ.
وطبعا فبنكيران كان يدافع عن «حق» آمنة ماء العينين في «تقريع» العثماني، ولو أنه حق أريد به باطل، لذلك خرج العثماني يقول إن العدالة والتنمية ليس حزبا ستالينيا ولكن التعبير يجب أن يكون بأدب، مما يعني أن العثماني يصف الطريقة التي كتبت بها ماء العينين بقلة الأدب.
ولعل العثماني أحس بخطورة محاولة بنكيران سحب المشروعية عن حكومته فخرج بتصريح يقول فيه إن تشكيل الحكومة حظي بموافقة الأمانة العامة للحزب، مما يضع بنكيران في تناقض فظيع، فهو يدعو إلى نزع المشروعية عن حكومة شارك في مفاوضات تشكيلها.
ويبقى أخطر ما قام به بنكيران من خلال خطبته هو الترويج لكون المغرب سيعرف هزات اجتماعية وثورات وأن حزبه لن يشارك فيها، وهي أكبر ضربة لحكومة أخيه العثماني، ونذير الشؤم هذا ينضاف إلى ما قاله بنكيران في لقاء الواليدية الذي عصف به عندما قال لأتباعه، وهو في منصب رئيس حكومة معين، إنه يتلقى زيارات لأغنياء لا تقدر ثرواتهم بثمن يسرون إليه أنهم أصبحوا يفكرون في جمع ثرواتهم وترك المغرب.
لقد نسي بنكيران أن الوضعية الاجتماعية والاقتصادية الهشة التي نعيشها اليوم، والتي يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، هي نتيجة للتدبير الكارثي لرئيس الحكومة السابق بنكيران للملفات الاجتماعية.
ولو حدثت لا قدر الله أية اضطرابات اجتماعية وسقطت الحكومة، فبنكيران، دستوريا، سيجد نفسه أمام محاسبة عسيرة لتدبيره الحكومي السابق، إعمالا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
«وديك الساعة أراك للفراجة».
وطبعا فسقوط الحكومة المحتمل هو ما يتمناه الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة الذي أعلن عن تأسيسه لحكومة ظل، مثلما يوجد في بريطانيا.
وحكومة الظل تعرف بالمعارضة الوفية، وهي حكومة تشكل من قبل حزب غير مشارك في الحكومة يكون الحزب الثاني في البلد، تحسبا لسقوط محتمل للحكومة بحيث تكون هذه الحكومة جاهزة لتكليفها من قبل الملك لتسيير البلد.
وهذه مغالطة أخرى من مغالطات الحقل السياسي المغربي، فالمفاهيم الغربية تستورد وتقحم بشكل تعسفي في المشهد المغربي رغم أن الجميع يعرف أن الشعب المغربي ليس هو الشعب البريطاني والسياسيين المغاربة ليسوا هم السياسيون البريطانيون.
فاللجوء إلى حكومة ظل برئاسة الأصالة والمعاصرة بعد سقوط حكومة العثماني هو التجسيد الأمثل لذاك الذي يستجير من الرمضاء بالنار.
وفي رواية أخرى، سيحدث معنا مثلما حدث لبلارج عندما «جا يبوس ولدو عماه»