في أمريكا أحاط الرئيس دونالد ترامب نفسه بمستشارين من طينة كبيرهم ستيفن بانون الذي كتب مغردا على حسابه قائلا «إن الفوبيا الروسية يجب أن تزول، فالروس هم حلفاؤنا الطبيعيون في حرب الغرب المسيحي ضد الإسلام».
وكل من شاهد الأفلام الوثائقية التي ينتج كبير مستشاري الرئيس الأمريكي سيندهش من دعوة هذا الأخير المباشرة إلى شن حرب صليبية ضد المسلمين.
أما في فرنسا فقد أصابت الانتخابات الرئاسية سياسييها ومثقفيها بالدوخة، فمن يوم لآخر نسمع تصريحات مفزعة من أفواه من يدعون إلى إنقاذ فرنسا من براثن الإسلام والإرهاب.
إيريك زيمور الصهيوني يطالب في القناة العمومية الخامسة بتخيير مسلمي فرنسا بين التخلي عن الإسلام أو مغادرة التراب الفرنسي.
فهؤلاء المسلمون كانوا «زوينين» عندما شيدوا فرنسا بأذرعهم واستعملتهم الجمهورية كدروع بشرية في حروبها الإمبريالية ضد الشعوب التي استعمرتها ونهبت خيراتها، أما اليوم فهم مجرد مشكل يجب التخلص منه، وليس بمنح الرئيس هولاند الجنسية الفرنسية لثمانية وعشرين من الرماة السنغاليين الذين حاربوا في صفوف جيشها سينسى السنغاليون ما فعلته فرنسا بهم.
التاريخ ليس قائمة طعام نختار منها ما يثير شهيتنا ونستثني ما يثير فينا الغثيان. التاريخ شاهد لا يعطي رأيه بل يحكي ما وقع.
فرانسوا فيون، المرشح المطارد بأكثر من فضيحة، قال إن أطفال فرنسا عليهم ألا يخجلوا من تاريخها، ففرنسا لا يجب أن تخجل من كونها أرادت اقتسام ثقافتها مع الشعوب الإفريقية.
والواقع أن فيون كان عليه أن يقول إن فرنسا يجب أن تعترف بماضيها الإمبريالي والاستعماري، فهي لم تذهب نحو الشعوب من أجل نشر ثقافتها بل من أجل استعبادها وذبح أبنائها واستنزاف خيراتها.
وحتى عندما غادرت فرنسا مستعمراتها فقد تركت فيها مقيما عاما قويا اسمه اللغة الفرنسية تنوب عن الجيش الفرنسي في تأبيد الاستيلاب الثقافي الذي يعتبر أشد أنواع الاستعمار فتكا.
لقد قلتها دائما وأكررها اليوم، ليس الهدف من خلق داعش الاستيلاء فقط على مصادر الطاقة في أرض العرب، بل تشويه الإسلام كدين وجعله مرادفا للذبح والسحل والحرق وقطع الأطراف واستعباد النساء.
هكذا عندما يقرر الغرب ضرب دولة مسلمة فإن الرأي العام الغربي يتقبل ذلك، بعدما يكون قد اقترنت الوحشية والتخلف وقلة الذوق في ذهنه بالمسلمين بسبب كل ما قامت به داعش وأخواتها من أعمال همجية باسم الإسلام.
لكن ما يجهله هؤلاء المهندسون الذين يخططون وراء الستار للقضاء على الإسلام هو أن هذا الدين كلما تعرض للتشويه كلما انتشر، لأن من يتولى أمره ليس المسلمون بل من أنزله وأقسم أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
ولنا أمثلة كثيرة بهذا الصدد، ففي الجزائر قامت الثورة ضد فرنسا باسم العروبة والإسلام، والشيخ البشير الإبراهيمي، ما يوازي شيخ الإسلام عندنا، كان أحد قادة الجهاد ضد المستعمر الفرنسي الذي استهدف طيلة قرن ونصف هوية الجزائريين الدينية واللغوية، وهكذا نجحت الثورة الجزائرية في طرد فرنسا بعد قرن وثلاثين سنة.
وبومدين رغم أنه خريج مدارس فرنسية فإن أول شيء قام به عندما وصل إلى السلطة هو التعريب.
وفي تركيا جاء مصطفى أتاتورك وفرض العلمانية لسبعين سنة وحذف كل مظاهر الإسلام، بعدها جاء الإسلاميون واستطاعوا أن يعيدوا الإسلام إلى الواجهة وأن يجعلوه مرادفا للرخاء الاقتصادي والنمو.
في دول آسيا الوسطى ظلت جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا تحت سيطرة الشيوعية منذ الثورة البولشفية سنة 1971، ويوم انهار الاتحاد السوفياتي عادت الجمهوريات إلى الإسلام، واستطاعت الشيشان تركمنتسان تادجيكيستان وغيرها أن تتحلل من الإيديولوجيا الشيوعية الإلحادية وأن تعود إلى أحضان الإسلام.
فرنسا اليوم أنشأت مؤسسة «إسلام فرنسا» ووضعت على رأسها مسيحيا هو جون بيير شوفينمان، وزير الداخلية السابق، وهذه المؤسسة هي بمثابة الكليرجي، أو الإكليروس، وعينوا فيها الطاهر بنجلون كعضو بمرسوم رئاسي، وكتبت لوفيغارو مبتهجة أن الطاهر لم يعد يصلي صلواته الخمس منذ مدة، مع أنه في الإسلام ليست هناك وساطات بين المسلم وربه، إذ لا رهبانية في الإسلام.
وليس صدفة أن تتحدث نادين مورانو مرشحة اليمين للرئاسيات عن غزو إسلامي لفرنسا، وأن يحذر مثقفو فرنسا من حرب أهلية قادمة بين المسلمين والفرنسيين.
هل هي مصادفة، إذن، أن تتزامن كل هذه النكبات على مسلمي أوربا في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها القارة العجوز؟
ليس هناك مكان للصدفة، كل شيء مخطط له بإحكام شديد، فالقرن الواحد والعشرون، كما تنبأ له بذلك أندريه مالرو، سيكون دينيا أو لا يكون.
لكن هذه الحرب، الخفية تارة والمعلنة تارة أخرى، ضد الوجود الإسلامي في أوربا والغرب عموما، تأخذ أشكالا «ديمقراطية» و«قانونية» حتى لا يظهر العالم الحر والمتقدم عاريا على حقيقته، فتتحطم الصورة المثالية التي يريد تقديمها عن نفسه كمجتمع يعطي الدروس حول الأخلاق والمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان الفردية والجماعية لدول العالم الثالث وبلدان العالم «المتوحش».
لذلك، فالعالم «الحر» يتخذ قراراته من أجل التضييق على المسلمين بطريقة جد ديمقراطية، وذلك عبر الاستفتاء والتصويت وقوانين الهجرة التي يصوت عليها ممثلو الشعب في البرلمان ومجالس الشيوخ.
بحلول عام 2050 سيشكل المسلمون نسبة 20 في المائة من سكان أوربا بعد أن كانوا لا يزيدون على 5 في المائة، أي أن الأسماء التي ستكون أكثر تداولا في أوربا بعد أربعين سنة من الآن هي محمد وعائشة وآدم وريان وأيوب ومهدي وأمين وحمزة وفاطمة، وهذا وحده يشكل بالنسبة إلى الفاتيكان، المحرك الحقيقي لسياسات قادة الدول المسيحية، كابوسا مخيفا.
لذلك، بدأت كل الحكومات الأوربية في التنسيق في ما بينها على الصعيد الأوربي لوقف هذا الزحف الأخضر، فجاءت قوانين فرنسا لحظر ارتداء الحجاب في المدارس قبل سنوات، وتبعها حظر ارتداء البرقع الأفغاني، مع أنه لا علاقة له بالإسلام بل هو زي ابتدعه طالبان، وتبعتها بريطانيا عندما وضعت قوانين جديدة لمكافحة الإرهاب، اتضح أنها كانت موجهة أساسا لتجفيف منابع تمويل الجمعيات الإسلامية الخيرية في بريطانيا، ووصلت هذه الحمى إلى إسبانيا عندما منعت مدارسٌ دخولَ طالبات بالحجاب، ومنع قاض محامية مسلمة تضع الحجاب من دخول قاعة المحكمة، مرورا بكارثة تصويت السويسريين لصالح منع بناء المآذن في المساجد الإسلامية فوق أراضيهم استجابة لدعوة عنصرية أطلقها الحزب اليميني وباركتها الحكومة من وراء الستار بقبولها عرض المسألة للتصويت.
ورافق التشدد والصرامة في تطبيق هذه القوانين تراخ واضح في التصدي للجرائم العنصرية التي يتعرض لها المهاجرون المسلمون في كثير من الدول الأوربية وأمريكا، منها حادثة وفاة أول قاضية أمريكية مسلمة من أصل إفريقي قبل أيام.
والرسالة التي تريد هذه الحكومات الأوربية إيصالها إلى مسلمي أوربا واضحة بما لا يدع مجالا للشك، وهي أن المكان لم يعد يتسع للجميع، عليكم أن تختاروا، إما أن تندمجوا معنا كليا أو أن ترحلوا إلى بلدانكم حيث تستطيعون القيام بما يحلو لكم.
هذا هو عمق دعوة المفكرين الفرنسيين حول قضية الهوية الوطنية، فإما أن يقبل المسلم في فرنسا بالانسلاخ والتجرد من جذوره الإسلامية العربية أو الإفريقية أو الأمازيغية لكي ينتمي بالكامل إلى العرق الفرنسي والثقافة الفرنسية والهوية الفرنسية مسيحية الأصول، وإما أن يعود إلى حيث توجد جذوره التي يفتخر بها.
إن وضع أوربا، كقارة تجمع دولا تتفق جميعها على احترام المبادئ الديمقراطية، لا يسمح لها بأن تقوم بإحياء محاكم تفتيش جديدة على الطريقة الكاثوليكية لطرد العرب والمسلمين من أراضيها كما وقع في إسبانيا، ولذلك تلجأ إلى استعمال القوانين للضغط وإحراج ومضايقة وإهانة هؤلاء المهاجرين، مثلما فعلت الشرطة الفرنسية مع فرنسي من أصول إفريقية عندما قاموا باغتصابه بعصا، حتى يفهموا أن الأمن والخلاص يكمنان في عودتهم إلى بلدانهم.
إنها، في نهاية المطاف، حلقة جديدة ومعدلة ومنقحة من مسلسل «محاكم التفتيش» التي اعتاد الغرب المسيحي القيام بها كلما أحس بزحف الإسلام والمسلمين على أراضيه