لدى عبد الإله بنكيران وحزبه قدرة عجيبة على تحويل الفشل إلى نجاح، فقد كتب يتيم في صفحته يصف الأجواء الليلية في بيت بنكيران بعد صدور بلاغ الديوان الملكي محدثا أصدقاءه عن البهجة التي عمت البيت والسرور الذي استقبل به أفراد عائلة بنكيران قرار إبعاده من رئاسة الحكومة، كما لو أن الأمر يتعلق بنصر مبين وليس بهزيمة نكراء، والحال أن دموعا حارة أهرقت فوق كتفي بنكيران من عيون قياديين وقياديات زاروا بيته تلك الليلة، حسرة على ضياع منصب رئاسة الحكومة من بين يديه، والذي مع ضياعه تبدد حلم بنكيران في ولاية ثالثة على رأس الحزب.
أما بنكيران فقد قال في أول خروج إعلامي له بعد بلاغ الديوان الملكي لصحافي وكالة رويترز البريطانية إنه ذاهب للوضوء والصلاة، فيبدو أن البلاغ كان مفاجئا إلى درجة أن بنكيران «كسر لوضو».
وبعيدا عن المزاح فإن ما حدث يستلزم وقفة تأمل لاستخلاص بعض الدروس والعبر.
وأول شيء يمكن الانتباه إليه هو أن بنكيران تعامل مع التعيين الملكي كما لو كان خيارا إجباريا فرضته نتائج الانتخابات على الملك، والحال أن لا شيء في الدستور يجبر الملك على اختيار عبد الإله بنكيران رئيسا معينا لتشكيل الحكومة، والفصل الدستوري واضح فهو ينص على تعيين رئيس الحكومة من الحزب الأول.
تعامل بنكيران مع مهمة تعيينه رئيسا للحكومة مكلفا بتشكيلها كما لو أنه يقود حزبا حاصلا على الأغلبية والحال أنه حصل فقط على المرتبة الأولى ويجدر به لتشكيل حكومة أن يتحالف مع الأحزاب الأخرى، لكنه عقد مهمته باستعماله لغة الازدراء والتحقير في حق أمناء الأحزاب الأخرى، فهذا تحركه جهة ما والآخر من رابع المستحيلات القبول بإدخاله في التحالف وثالث عليه أن يرضخ ويقبل بالشروط وإلا ستنهش الانكشارية لحمه وتشكك في مصدر ثروته.
تعامل بنكيران مع التعيين الملكي لتشكيل الحكومة كما لو كان مكسبا ثابتا وأعطى نفسه الحق بالتفاوض حول هذا التعيين مستعملا أسلوب الابتزاز، يعني اتركوني أفعل ما أشاء وإلا سأعيد لكم المفاتيح وأستقيل و«ديك الساعة شوفو شنو ديرو فبلاصتي».
وهي طريقة صبيانية في التعامل مع أمور الدولة انتهت بسحب الملك للتكليف من يد بنكيران.
وطوال الخمس سنوات التي قضاها بنكيران في الحكومة السابقة وطوال خمسة أشهر التي قضاها يتشاور حول الحكومة الثانية وهو يزايد على المغاربة ويمن على الملك مرددا أن حزبه هدية من السماء وبفضله نجا المغرب من أمواج الربيع العربي وأفلت النظام من الانهيار.
وليس هذا فحسب بل إن بنكيران ظل يهدد ويتوعد من مغبة التخلي عنه بعدما قضى به النظام «الغراض» وقطع الواد ونشفت أرجله، وأرسل إشارات ورسائل واضحة تفيد بأنه لن يصمت ولن يقبل أن يكون رئيس حكومة «جوطابل».
ويبدو أن بنكيران نسي أنه ليس سوى رئيس حكومة قد خلا من قبله رؤساء حكومة كثر، وأن ما كان يخطط له من تمكين لحزبه وحركته داخل دواليب الدولة فشل بعدما انتبهت الدولة إلى أن مشروع الرجل ليس توفير الشغل ورفع معدل النمو بل تشغيل عائلته وأفراد قبيلته الحزبية ورفع معدل نمو شركاتهم وحساباتهم البنكية.
لذلك لم يترك الملك لبنكيران فرصة القدوم بين يديه وتقديم استقالته بعدما يكون قد حكى له كل ما تعرض له في طريق تشكيل الحكومة، فالملك لم يكن ينتظر أن يأتي له بنكيران بلائحة بالمصاعب التي اعترضت طريقه بل بلائحة بأسماء وزراء الحكومة، وبما أنه فشل في مهمته فقد تم استبعاده.
والحقيقة أن بنكيران ليس هو شخصيا من فشل في تشكيل الحكومة وإنما حزبه بكامله ومعه امتداداته في قطر وتركيا، فبنكيران رهينة بيد كل هؤلاء وكل ما قام به واتخذه من خطوات كان بتنسيق محكم مع هذه الجهات.
والقرار الملكي يضع حزب العدالة والتنمية أمام امتحان حاسم، هل هذا الحزب يقوم على تقديس وتأليه شخص واحد هو عبد الإله بنكيران، بدونه سينهار الحزب وينقرض، أم أنه حزب مبني على قانون داخلي واضح ينتصر للمؤسسات عوض الأشخاص.
كما أن المستجد الذي حدث سيجعل بنكيران ومعه تابعوه يدركون حقيقة وزنهم داخل المجتمع، خصوصا عندما سيرون أن «جوج دلمليون» التي ظلوا يهللون بتصويتها عليهم ظلت في بيوتها ساكنة تترقب من سيقود الحكومة المقبلة ولم تنزل إلى الشارع كما ظل يتوهم حالما في ملتقيات شبيبته وكتابه المجاليين.
اليوم الكل ينتظر قرار الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية حول القبول بقيادة الحكومة من عدمه، وما يعقد الأمر هو أن الأسماء الثلاثة المرشحة بقوة لأخذ مكان بنكيران عليها مآخذ، فالرميد متزوج من امرأتين، وإذا تم اختياره لتشكيل الحكومة سيكون المغرب أول دولة لديها دستور متقدم يقود حكومتها شخص متزوج بأكثر من امرأة، مما سيطرح مشكلة السيدة الأولى لرئيس الحكومة، هل ستكون الزوجة الأولى أم الثانية أم هما معا ؟
أما العثماني فذهابه بعيدا في علاقاته مع تنظيم الإخوان المسلمين قد عصف به سابقا من وزارة الخارجية، فكيف يستقيم طرد شخص من الباب ليعود من النافذة ؟
أما الرباح فرغم تعاطف شبيبة الحزب معه فإن بنكيران نصحه بأن «يشد الصف مع خوتو»، بمعنى أن ينضبط وأن يكف عن تغذية أطماعه بالحصول على منصب الأمين العام للحزب.
إن في ثنايا بلاغ الديوان الملكي جوابا على كل الذين كانوا يقولون إن النص الدستوري غل يد الملك، فالجملة التي تقول في بلاغ إعفاء بنكيران «وقد فضل جلالة الملك أن يتخذ هذا القرار السامي، من ضمن كل الاختيارات المتاحة التي يمنحها له نص وروح الدستور، تجسيدا لإرادته الصادقة وحرصه الدائم على توطيد الاختيار الديمقراطي، وصيانة المكاسب التي حققتها بلادنا في هذا المجال»، تعني أن الملك لديه خيارات دستورية أخرى لحل الاحتباس الحكومي، لكنه اختار أن يعين شخصية ثانية من الحزب الفائز، مما يعني أنه في حالة استمرار حالة الاحتباس الحكومي فإن الملك سيلجأ لهذه الخيارات التي يمنحها له الدستور، والتي يؤطرها مبدأ ضمان حسن سير المؤسسات، من أجل توفير الشروط المناسبة لتشكيل حكومة تستطيع أن تواجه التحديات الكبرى التي يواجهها المغرب داخليا وخارجيا.
لقد ترقب بنكيران طيلة خمس سنوات وخمسة أشهر أن يقع الملك في خرق دستوري، وصرح أكثر من مرة باستعداده لترك منصب رئيس الحكومة شرط أن يطلب منه الملك ذلك شخصيا لكي يسجل عليه ذلك للتاريخ، لكن الملك متع بنكيران بجميع حقوقه الدستورية ولم يطلب منه سوى أن يحترم الدستور ويطبق بنوده، وأهمها تشكيل الحكومة داخل آجال معقولة.
ومن جهة أخرى فقد أظهرت الخمسة أشهر الأخيرة التي عاش فيها المغرب بدون حكومة أن البلاد فيها مؤسسات يمكنها الاشتغال بشكل عادي أثناء الفراغ الحكومي. مما يعني أن الأمر يتعلق بدولة ذات مؤسسات وليس بواحدة من جمهوريات الموز التي تصاب بالشلل بمجرد حدوث أزمة حكومية عابرة.
إنه درس للطبقة السياسية مغزاه أن الأحزاب خلقت لكي تخدم الصالح العام وتسير البلاد طبقا للدستور، أما الأحزاب على شاكلة حزب العدالة والتنمية التي تعتقد أنها هبة سماوية وأن أمناءها العامين أنبياء مرسلون جاؤوا لإنقاذ البلاد من الضلال، فليس الزمن الحالي زمنها.
إن ما حدث رجة سياسية قوية سوف تجعل حزب العدالة والتنمية مجبرا على تحديد موقفه وموقعه من الدولة، وسيظهر هل هو حزب يريد أن يشكل حكومة أم هو تنظيم سياسي لديه طموح أكبر من تشكيل مجرد حكومة.
وطبعا لا يمكن أن ننهي هذا العمود دون أن نعيد طرح السؤال الكبير الذي يطرحه جميع سكان شبكات التواصل الاجتماعي «واش بنكيران غادي يتخلص فشهر 3 كامل ولا غي فالكانزة»