المختار الغزيوي
نتذكرهم كل ثالث دجنبر، ثم ننساهم، وتتذكرهم عائلاتهم العمر كله.
تكابد معهم ماتكابده، وتحاول إقناع نفسها دوما وباستمرار أن هذا هو القضاء والقدر، وأنه من الضروري التعايش معه، وأنه لا حل في الختام وكفى . لذلك لابأس من مشاطرتهم هاته المعاناة وإن ببضعة أسطر لا تسمن ولا تغني من تعب حياة لايمكن وصفه على الإطلاق
ليس الكفيف هو المعاق. الإعاقة الحقيقية هي أن تكون ببصر سليم، ولاتستطيع أن ترى دواخل الناس. لاتنفذ لعمق الأشياء، ولا تصلك الرسالة بسهولة وإن كانت مجردة أمامك شاخصة تنظر إليك عوض أن تنظر إليها
ليس الأصم هو المعاق، الإعاقة الحقيقية هي أن يصرخ فيك الواقع يوميا بعديد الكلام وأن لاتسمعه. أن تمثل دور من لم تصله ذبذبات وأن تعتقد أنك بمجرد إغلاق أئنيك استطعت أن تحل الإشكال رغم أنه سيظل معك يتبعك إلى آخر الأيام
ليس الأبكم هو المعاق. الإعاقة الحقيقية أن لاتستطيع الكلام حين الكلام. أن تكون الجملة مكتملة الأركان في فمك وعقلك، وألا تستطيع التفوه بها، خوفا أو طمعا أو افتراءا أو كذبا أو تزلفا أو نفاقا أو جبنا أو مراعاة لمجتمع لم يراعك في يوم من الأيام
ليس الأعرج هو المعاق. الإعاقة الحقيقية ألا تستطيع السير إلى حيث تشاء. ألا تدرك هدفك وأن تضيع اليوم بطوله غير قادر على تحديد بوصلة لكل تيهك، وأن تعتقد أن المزيد من التجول في الفراغ سيوصلك يوما إلى حيث النهاية: المزيد من الفراغ
ليس المتأخر ذهنيا هو المعاق. الإعاقة الحقيقية أن يكون ذهنك مكتملا وسويا وأن لا تستطيع التفكير. أن تحرم نفسك من نعمة تتوفر لك أنت وحدك المنتمي لجنس الإنسان. أن تعطلها لفائدة يقينيات زائفة لا تمتلك عليها أي دليل سوى كسلك وعجزك عن التفكير، وقرارك إعطاء ذهنك وعقلك ومادتك الرمادية وكل حواس التأمل فيك إجازة طويلة الأمد غير مدفوعة الأجر، بل مكلفة لك أكثر مما تتصور أي العمر كله
ليس طفل القمر هو المعاق. الإعاقة الحقيقية هي أن تكون قادرا على الخروج إلى الشمس لكنك تخافها. تنزوي في ظلال وحدتك، تعاقر ما شئت من أدوات الهروب من الواقع المر الذي لاتستطيع مواجهته، وتتمنى أن يتواصل الليل بعد الليل، وأن لا يأتي عليك أبدا النهار الذي ستكون ملزما فيه بالاستيقاظ والخروج إلى الناس والالتقاء بهم، والحديث معهم وإيجاد مكان لك تحت الشمس..
ليس المتوحد هو المعاق. الإعاقة الحقيقية هي أن يكون الناس قربك، فتهرب منهم إلى أبراجك العاجية، تعجز عن التواصل معهم، وتقرر أن تسبهم جميعا وأن تعتقد أنك الأفضل وأن الآخرين كل الآخرين أقل منك شأنا فقط لأنك عاجز عن الوصول إلى دواخلهم، وغير قادر على أن تمتد إليهم بجسر المحبة، وأن تمد إليهم يد السلام والكلام، وأن تعثر في نظرات أعينهم، هناك في تلافيف البؤبؤ الداخلي على النظرة الصادقة التي تؤكد وصول الكلام إلى عمق العمق وليس فقط إلى سطح كل الالتقاءات
ليس المعاق من حكمت عليه الدنيا في بدئها أو منتصفها أو في الختام بأن يكون فاقدا لحاسة من حواس توفرت للآخرين
الإعاقة الحقيقية هي أن تعجز عن الإنسانية، ألاتحس بالمحيط حولك، أن تعتبر أنك تستطيع العيش لوحدك ودونما حاجة للآخرين
هاته الإعاقة لاحل لها. بقية الأمراض الأخرى والابتلاءات كلها سيجد لها العلم والطب وتطور الأيام حلا في لحظة من اللحظات
وحدها الإعاقات الحقيقية ستبقى عضالا حتى النهاية
الإعاقة الحقيقية الوحيدة التي لا علاج لها هي أن تعجز عن أن تكون إنسانا…