المختار الغزيوي
ملحوظة أولى: العشرين والناس !
السبت 20 فبراير 2016مرت خمس سنوات على أول صيحة ارتفعت في الشارع المغربي يوم 20 فبراير ، مطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية. خمس سنوات لكم تبدو كافية لقراءة الحركة، ودوافعها ودواعيها ومطالبها وكيفية تطورها في الشارع وكيفية انتهائها وبقية المتعلقات المرتبطة بها
قراءة لا تريد أن تكون ظالمة أو متجنية، ولا تريد أن تكون أرثوذوكسية تقدس حركة أتت لتكسير عديد الطابوهات، ولا تريد أيضا أن تكون عادية تعيد نسج الكلام الذي قيل ولا تجد جديدا تلوكه في التخليد الخامس لذكرى حركة لم تشبه أبدا بقية الحركات
انطلاقا من اليوم وحتى السبت المقبل الذي يصادف الذكرى الخامسة للعشرين من فبراير لابد من بعض كلام للاستفادة أولا، للقراءة ثانيا، ثم للتفكير مليا في المستقبل المشترك بيننا جميعا وهذه هي الملاحظة الأولى اليوم
ذلك أن العشرين ليست ملكا للعشرينيين، ولا لمن أطلق نداءها أول مرة ولا لمن استجاب إليها أو من لم يستجب. العشرين هي ملك للشعب المغربي كله لأنها في ذمة تاريخنا المشترك أولا ولأن مايقع على هاته الأرض ثانيا يهم كل القاطنين فوق هاته الأرض، وهذه مسألة أهملتها الحركة يوم انطلقت وزادتها إهمالا في كل تطوراتها وانتهت بها في الختام ملكا فقط لمن يعتبرون أنهم حفظوا باسمهم رسمها التجاري. لذلك انفض عنها الناس بعد أن فهموا أن الأيدي التي تدخلت فيها لن تسمح لها بصفاء النية الثوري أو الإصلاحي أو التغييري الذي كانت تدعيه في شعاراتها.
شعارات مثل الحرية أو العدالة الاجتماعية أو القطع مع الفساد والاستبداد هي شعارات لايمكنك أن تكون ضدها أبدا..
بالمقابل حركات وجماعات وأشخاص وهيئات تسللت إلى هاته الشعارات، لا يمكنك أن تكون معها أبدا..
وهنا مكمن التناقض بين الشعارات الجميلة التي ارتفعت في شوارع المغرب، وبين التطبيق الذي كان سيئا للغاية لهاته الشعارات، ولتوجيهها، وللمراد منها حد تيه الحركة في صراعات جد صغيرة وجد تافهة، حول المالك الأصلي لها وحول من سيستفيد من كل ما ستأتي به من ثمار إذا ما نجحت في كل أو بعض مساعيها.
في الختام هذا الانفضاض الشعبي عن هاته الحركة كان أولى نقط ضعفها، وأبرز الملاحظات عليها، خصوصا بعد أن فهم المغاربة أن مايقال لهم هو عكس ما يفكر فيه من يحركون الحركة، وفهم المغاربة أيضا أنهم يستحقون أفضل بكثير من التلاعب بهم بشعارات لا يصدقها من يرفعونها، وأنهم يستحقون رفقة بلدهم مصيرا أفضل من مصير الدول والبلدان التي ارتمت دونما عقل في لعبة ترديد شعار “الربيع العربي” مثلما أطلقتها قناة “الجزيرة” في “جينغل” تلفزي شهير حمل وصف وعبارة “بن علي هرب” وأرادته الجهات التي كانت تحكم قطر آنذاك بمباركة من قوى دولية شعار المرحلة للمنطقة ككل
اليوم ومع قليل التأمل السريع أو البطيء في الحركة وعمقها الشعبي يتضح مليا أنها كانت فعلا دونما ارتباط بالناس الحقيقين، لا ناس الجرائد ووسائل الإعلام ومنتديات التواصل الاجتماعية، وطبعا ليس ناس الحركات السياسية بمختلف تلويناتها التي قرأت في الحركة فقط فرصة للقفز على مكتسبات تضمن لها المزيد من الربح على حساب خسارات الناس
المغاربة الذين يشكلون المغرب الحقيقي هم أناس خرجوا من تجارب مريرة مع الأحزاب والهيآت السياسية على اختلاف تسمياتها. وإذ يفهمون جيدا ألا وجود لحياة سياسية دون أحزاب، ويستوعبون أهمية الأحزاب، يفهمون أيضا أن عددا كبيرا من هاته الأحزاب – إن لم يكن كلها – قد استفاد على حسابهم فعلا وجعل منهم وسيلة ضغط وورقة لعب يستلها حين الحاجة، ويعيدها إلى الغمد بعد الانتهاء من اللعب بها
لذلك لم يكن ممكنا لأجيال وسائل التواصل الحديثة أن تسقط في الفخ الذي سقطت فيه الأجيال السابقة. الناس وضعت الحكاية كلها وفق منطق الربح والخسارة، وقالت الممكن والمستحيل وقارنت بينهما ثم رفعت الأعين تجاه التجارب الأخرى في البلدان التي اختارت المغامرة، وبعدها كان لها رأي سديد في الموضوع ككل: لا نتبع المغامرة، نتبنى الشعارات المعقولة والقابلة للتطبيق. نعتبر المعركة مستمرة من أجل تحسين عيشنا ماديا ومعنويا لكن لا نقبل أن نكون حطب جحيم تريد جهة ما إشعاله لكي تبحث فيما بعد بين الرماد عن بعض الأرباح والمتعلقات التي ستبني بها علاقتها .
هو النبوغ المغربي ربما، أو هو تحفظنا الشهير تجاه المتحمسين أكثر من اللازم الذين نشك فيهم، أو هي ربما بركة هذا البلد أن أرادت به خيرا، ولم تقبل له أن يصبح هو الآخر مجرد مقبرة لأبنائه مثل بلدان أخرى من أجل مكاسب سياسية اهتدت البشرية المتحضرة كلها إلى وسائل سلمية للتدافع من أجل الوصول إليها.
ثاني الملحوظات: شكون محرك شكون؟
ظل السؤال مطروحا منذ قيام الحركة، وحتى انطفاء جذوتها عن محركات البحث الحقيقية لها، أو عن “غوغل” الحقيقي المنتفع منها، والذي يبحث من خلالها عن شيء ما يريد الوصول إليه.
ومباشرة بعد انقضاء الأسابيع الأولى من أنشطة الحركة و”بيكنيكات” الديمقراطية التي كانت تنظمها كل أحد في الشارع، سارع المتعقلون من بين الناس إلى طرح السؤال عن المستفيد الأكبر من الدورة ككل مثلما يقول أهل الرياضة عند تقديم حصيلة الأسبوع
اتضح أن الجهات المستفيدة أكثر من واحدة وأن الحركة أصبحت مثل عصا سيدنا موسى يتكئ عليها الكثيرون ولهم فيها مآرب أخرى.
اكتشفنا قدرة الحزبيين أولا على التلون بكل الألوان، ولمن لا يتذكر تلك اللحظات المفصلية من سنة 2011 لابد من استعادة عبارات التردد في نبرة العديدين وهم يتساءلون “ما الذي سيقع؟”. سألهم العديدون حينها “أين إيمانكم الشهير بالبلد؟”
وجدنا في الملامح من الناس ارتيابا غريبا ولأول مرة استوعبنا بالفعل لا بالقول، أو ترديد الكلام فقط، أن هناك من بيننا من يستطيع أن “يقلب وجهه” في اللحظة الموالية بمائة وثمانين درجة.
ثم اكتشفنا قدرة بعض من انتهى أوانهم السياسي على لعبة التمديد في العمر والإطالة في مدة الصلاحية، وتقديم النفس رغم مرور الوقت والأوان باعتبارهم البدلاء لكل الموجود من بيننا، وإن كانوا في السابق من الوقت قد احتلوا المشهد العام وصدارته دون وجه حق. لكنهم لم يكترثوا، واستغلوا لحظة التيه الجماعية التي كانت لكي يعتبروا أنه يحق لهم أن يملؤوا أي فراغ قد يحدث أمامنا..
وطبعا اكتشفنا أثرياء الثورة، أو ثوريي الثروة، أولئك الذين وضعوا أمامهم آلات العد والحساب الشهيرة باسم “الكالكيلاتريس” وقاموا بسرعة بإنجاز حسابات الربح والخسارة، وقرروا أن يتبرعوا ببعض الفتات على الشباب على سبيل الاستثمار فيهم لمستقبل قادم بدا لهم قادرا على احتوائهم، بل وعلى إعفائهم من كل ضرائبهم العالقة، وفتح الصفحة لهم من جديد لكي يغتنوا مجددا على حساب نفس الشعب الذي كانوا يرفعون باسمه الشعار العتيد والبليد في الآن ذاته “الشعب يريد”
وطبعا اكتشفنا أهل الأصولية السياسية فينا، ممن يعتقدون أنه يحق لهم أن ينتظروا أي تغيير يتم بيننا لكي يركبوا عليها. أتوا من كل فج عميق، واعتبروا قومتهم التي لطالما بشرهم بها مرشدهم قد حان وقتها فامتطوا “الهوندات” ووفروها وأتوا بالأتباع وكان لهم لوم وحيد على الحركة فقط: أنها كانت تخرج الأحد للتظاهر وليس الجمعة مثلما وقع في البلدان التي انتصر فيها تيارهم وقلب الطاولة على من شاركوه الأحلام وأقام هناك نصرته والقاعدة وداعش وأحرار الشام وبقية الترهات
وفي سؤال التحريك هذا وهو سؤال يعرفه كل من مارس لعبة الكراكيز يوما من موقع غير موقع المتفرج، تكون الأصابع عادة متمرسة في اللعب بالخيط االمناسب في اللحظة المناسبة. وعندما يكون الممارس مبتدئا أو لم يسبق له أن مارس التحريك فعلا يقع في الخطأ عند الخطوة الأولى غير المحسوبة فتنهار اللعبة كلها، ويصبح مسرح العرائس غير قادر على إبهار مشاهديه سواء كانوا جمهورا ناشئا أم جمهور راشدين.
وذلك بالتحديد ماوقع للحركة، بسبب التحريك المشتتبه فيه والذي تعددت أياديه إلى أن اختلطت الخيوط بين أيدي اللاعبين والملعوب بهم، ولم يعد أحد يعرف ما الذي يمكن أن يقوله عن الأحد الآخر وإن جمعتهما المسيرة الواحدة والشعار الواحد واللافتة الواحدة، وفرقهما مكان انتهاء المسير، بين الفار مباشرة رلى باره أو مقهاه يطارحها بعض الانتشاء وبين الذاهب إلى زاويته يقول لشيخه إنه أدى المهمة على أكمل وجه وأن الأسبوع المقبل سيكون أفضل…
لعلها مرة أخرى بركة المكان، وحظه الحسن أن ارتبكت لعبة الأصابع المحركة، إلى أن اختلطت خيوطها وأصبح ممكنا أن يطرح الاستثناء المغربية نفسه بديلا قويا عنها وكذلك كان..
ثالث الملحوظات: أينما وليت وجهك..!
أينما وليت وجهك في البلدان التي صدقت الشعار “الشعب يريد” تجد خرابا يعاكس تماما هذا الشعب ويعاكس مايريده. ولعلها صدفة الزمان الجميلة أن أتينا في الأجندة التي وضعت، على مهل بعد بلدان أخرى قيل لها أن تبدأ مبكرا.
الترتيب الزمني أو مايسميه الراغبون في التعالم والفذلكة اللغويين “الكرونولوجيا” أتاحت لنا أن نأتي بعد صرخة “بن علي هرب” على الجزيرة، وبعد بدء التحرير في القاهرة ومعركته التي انتهت بمرسي وبعد 17 فبراير الليبية التي انتهت بدولة في طبرق ودولة في بنغازي وقتال في المجتمع الدولي يقوده المغرب من أجل إرساء حكومة وفاق وطني تعفي ليبيا المسكينة من أن تتحول إلى مختبر تجارب لكل الإرهابيين الفارين وبعد كل ماوقع في العالم العربي الذي قيل له في تلك السنة الشهيرة الحاملة للرقم 11 أن إنهض ولا تخش شيئا والفوضى الخلاقة تنتظرك ولن يكون في الختام إلا “كل خير”.
اتضح ألا خير في الحكاية ككل، وأن الهدف كان إعادة ترسيم حدود تبدو لمن يسيرون المنطقة عن بعد أنها لم ترسم بالشكل الكافي، أو أنها تحتاج لإعادة ضبط وربط من جديد وبدء تخطيط آخر لها ولحدودها بدم أبنائها وليس بأي وسيلة أخرى.
في تونس أولا ، والتي شكلت المختبر الأول للتغيير الديمقراطي في العالم العربي والإسلامي بعد أن كانت سباقة للفعل الثوري أو التغيير أو المجهول (أسمه مثلما شئت اليوم)، سارعت التيارات الأصولية السياسية إلى السطو على كل ماوقع في الخضراء، وأصبحت الرحلات تنظم يوميا من كل مكان في العالم إلى هذا القطر الصغير الذي تم إعلانه محررا وتابعا لإمارة إسلامية لم نرها حينها لكن تلمسنا أولى ملامحها، وذلك بالتحديد ماكان. خاضت تونس من خلال بقايا مجتمعها المدني معركة قوية ضد الإرهابيين وضد أصوليي السياسة ممن أرادوا اختلاس ثورة الشباب وغضبهم من التضييق لسنوات عليهم. وإلى حدود كتابة هاته الأسطر لازالت الخضراء تبحث عن نفسها وعن مستقبلها راغبة في الفرار من تركة بن علي التي لازالت، خائفة على نفسها من مختلسي الثورات ومن تجار الدين ومن جبل في الحدود الليبية يطل عليها كل مرة بهول جديد
أما ليبيا، فيكفي لكي نصف سوء ماوقع فيها أن الناس اليوم تترحم على زمن ديكتاتور مجنون مثل معمر القذافي وتعتبره بكل علاته وبكل كوارثه وبكل الفضائح التي كان يقترفها أفضل بكثير من حالة الهوان الأمني، وسقوط أراض كثيرة بين أيدي المتطرفين، وتحولها إلى مشاتل للإرهابيين تهدد أوروبا ودول الجوار وكل مكان في العالم اليوم
مصر ولأنها أم الدنيا ولأنها الشقيقة الكبرى فقد كان لها نصيب أوفر من الألم بسبب وهم الربيع العربي، إذ تم تسليمها ذات غفلة على طبق من ذهب لتيار الإخوان المسلمين بتواطؤ دولي مفضوح، حتى تربع على عرش المحروسة رجل يسمى لهوان الزمان وتقلباته محمد مرسي، ولولا الأيدي التي سلمت، والتي امتدت حين فهمت أن الأوان قد فات لكانت مصر اليوم قندهار أيامنا الحالية، والمرتع الأكبر الذي تصدر منه خلافة الأوهام ترهاتها إلى بقية الناس
وطبعا لا حاجة للحديث عن سوريا وهي تشهد الحرب الكونية اليوم، ولا عن اليمن وهو ممزق يحاول استعادة بعض من تعقل أهله، ولا عن بقية مناطق التوتر، وقد سبق العراق الجميع إلى الارتماء في أحضانه، وإلى تجريب الفوضى غير الخلاقة التي أنتجت لنا ما أنتجته اليوم.
المغاربة التقطوا ماوقع، وشاهدوه في القنوات التلفزيونية، وفهموا أن المراد بهم هو عكس ما يقال لهم في الشعار، فرفضوا العرض رفضا تاما، وقالوا بالصوت الواحد “لاتحشرونا مع هؤلاء. فنحن نرفض أن نموت أو أن نقتل بعضنا البعض من أجل منصب سياسي يستولي عليه في النهاية شخص أو حزب أو جماعة، خصوصا وأن لدينا شرعية تكفينا شر كل هذا الألم، وإذا كان هناك من بد لتغييرات في بلدنا مع الحفاظ على ثوابتنا التي تؤسس وجودنا وبقاءنا على هاته الأرض تحت مسمى المغاربة، فستكون بنا جميعا وبهدوء وبتدرج، وليذهب الراغبون في الفتنة إلى الجحيم”.
تلك كانت بركة أخرى من الزمان هاته المرة، وقد تحدثنا الأمس عن بركة المكان، أهدتنا نفسها وأهدتنا فرصة الاستفادة من كوارث البعض وأخطائه، وأهدتنا معها – ونحن المغرب الأقصى – فرصة الابتعاد الإيجابي عن الأشياء وأخذ المسافة منها للاختيار والمفاضلة، والاحتفاظ بالجيد فيها وهو موجود وإن كان قليلا، وترك السيء لمن يريده، حتى وإن كان بعض أبناء البلد قد أرادوا بنا سوءا للأسف الشديد، وهؤلاء يحق لنا أن نتحدث عنهم في رابع الملحوظات غدا..
ملحوظة رابعة: معانا ولا مع الآخرين؟
ثم نصل في رابع حلقات ملحوظاتنا الخمس عن ذكرى العشرين الخامسة إلى ملحوظة الانتماء التي اختصرناها في سؤال المغاربة الساخر “معانا ولا مع الخرين؟”، خصوصا بعد أن اتضح أن الرجل الموضوعة هنا لدى العديدين توازيها أرجل أخرى موضوعة في أماكن أخرى تحسبا لكل ما من شأنه.
وقد عشناها أيام العشرين وازدهار خرجاتها الديمقراطية، لكننا نعيشها أيضا هاته الأيام، ما يعني أن الأمر بنيوي في البعض يؤسس لعلاقته الملتبسة بوطنه أو ما يفترض أنه وطنه بهذا الشكل.
لامفر هنا من التذكير بإعادة طرح الموضوع مجددا من خلال دراسة قيل إنها ستكون نقدية انتقادية للتحول الديمقراطي في المغرب، قرر مركز مستقر في قطر أن يمنح مقابلها ألف دولار للرأس أو عفوا للمساهمة الأكاديمية، من طرف أسماء عديدة ضمنها أغلبية لا تمارس الفعل السياسي في البلد إلا من باب العثور على المثالب والنواقص فيه.
فلا هي مسجلة في لوائح انتخابية، ولا هي مشاركة في أي اقتراع تم، ولا هي معنية بنقاش الدستور وماتلاه أيام 2011، بل كل علاقتها بنا هي أن تقول لنا صباح مساء إن كل شيء سيء في البلد وكفى. والجميل والمثير للسخرية هي أن تهارع هاته الجهات التي تجد ديمقراطيتنا ناقصة وغير كافية، إلى معهد قطري لكي تبثه لواعج شكواها ولكي تجد عنده السند الديمقراطي الرصين مما لايحتاج أصلا حتى للحديث عنه أو التعليق لا هزلا ولا جدا.
وأيام العشرين إذا كنتم تتذكرون، كثرت هاته الموضة، ولم نعد نعرف أين تبدأ مكاتب الاتصالات وأين تتوقف. وقد لعبت القنوات التلفزيونية المكلفة بالمهام حينها دور التوصيل فكنا نجد (المناضل) ينتهي من “فرانس 24″ فيسارع إلى “الجزيرة” ثم يعود إلى “روسيا اليوم” قبل أن يفتح الفيسبوك الذي اكتشفه الكثيرون في تلك اللحظة المفصلية فقط، ويطالب بالمزيد من النضال والمزيد من “الشعب يريد”.
وإذا كان من حسنة تحسب لتلك الأيام وتلك الخرجات الديمقراطية بكل علاتها، فهي حسنة الكشف عن الوجه الآخر لبعض المندسين بيننا الذين كنا نعتقدهم أبناء كاملين للبلد تهمهم مصلحته أولا وآخرا، لكننا اكتشفنا أنهم أبناء لجيوبهم ولمن يدفع أكثر، ولمن يضمن لهم الترتيبات المستقبلية وموطئ قدم فيها مثلما تخيلوا الحكاية حينها.
وإذ تتذكرون -ولا مفر من التذكر والموضوع كله عن ذكرى-فلايمكن أن تنسوا لقاءات بعض كثير هنا بممثلي سفارات بعينها، وكيف كان التساؤل مطروحا في كل مكان عن الرأي فيما سيقع، وعن كيفية التعامل معه، وعن ضرورة العثور على مكان ما صغير أو كبير لا يهم في هذا الذي سيقع
حينها استوعب المغربي واستوعبت المغربية جيدا أن كل هذا الذي يقع لا علاقة له بالشعار المرفوع، وفهما معا قبل بلدان أخرى لم تفهم الحكاية إلا مؤخرا أن هناك من يحرك هذا الذي يجري أمامنا لمصلحته، وأن من يريد تغييرا لبلده عليه أن يرسمه ويتخيله من قلب بلده، وأن يراعي فيه ومن أجله كل شيء، وفي مقدمة هذا الكل شيء أن يراعي مصلحة بلده وبقاءه مستقرا آمنا قادرا على فتح المجال للمطالبة بالتغيير فيه دونما مساس بأهم مكتسب فيه: سلمية التدافع بين الناس على اختلاف مشاربهم.
وقد أراد بنا البعض أيامها أن نخرج عن هذ الإطار السلمي، وتخيل قدرته على الزج بنا في أتون ما سقط فيه الآخرون، لكن حساسية المغربي في هذا الصدد كانت أقوى من المتوقع، ومنعت أي انزياح عن السطر، وفرضت بالفعل، مما يستحق احتراما وتنويها كبيرين اليوم، أن تجري الأمور وفق النظرة المغربية لها.
لذلك خلق الله الاستثناء المغربي، ولذلك اقتنع المغاربة أنهم بالفعل يمتلكون شيئا متميزا عن الآخرين، كانوا مضطرين للعبور من محطة العشرين من فبراير لكي يتأكدوا من وجوده حقا، ولكي يلمسوا هذا الوجود على أرض الواقع، ولكي يفهموا الخاصية أو الإضافة التي توفرت في أرضهم، ولم تتوفر للآخرين
أسماها الكل منذ ذلك الحين الاستثناء المغربي، وأمضينا صراعا حقيقيا مع البعض لكي ندخل إلى أذهانه أن الأمر يتعلق بقدر وليس باختيار، وأن العبارة غير موجهة للاستهلاك الإعلامي، بل هي الواقع على الأرض، وقد اقتنع من اقتنع في النهاية وإن كان رافضا، فيما عاش المغاربة هذا الاستثناء في بلدهم تميزا عن الآخرين، وحفاظا على لحمة البلد من أي مساس بها، ورهانا صالحا للمستقبل من أجل تدافع عاقل للوصول إلى مكتسبات لابد منها
وتلك هي ملحوظتنا الأخيرة لعدد الغد أو يوم الذكرى، وتتعلق بكيفية الحفاظ على مكتسبات العشرين الإيجابية وتعزيز مايصلح منها لمسار أفضل للبلد يستحق بكل تأكيد
خامس الملحوظات: بعض من إيجابيات
في الأخيرة من حلقات الذكرى الخامسة لحركة العشرين من فبراير لابد من بعض كلام عن المكتسبات، وعن الاستفادة من الأخطاء وعن الحصيلة ككل.
من يقول إن الحركة وحراكها كانا سلبا بالكامل مخطئ، ومن يقول العكس ويجزم بإيجابية الفعل كله مخطئ مثله تماما. بعض من نسبية هام في الموضوع والقراءة ككل، والاعتراف بما للحركة وماعليها هو السبيل الأفضل للقيام بالنقد الأكثر اقترابا من الموضوعية لما تم في تلك الأشهر التي خلت من سنة 2011
وقد أمضينا مع المثالب والسلبيات أربعة أيام كاملة، لذلك لابأس من الوقوف عند بعض الإيجابيات للحديث عنها وفي مقدمتها أن الحركة أزالت خوف المغاربة من الشارع
مضى ذلك الزمن الذي كان الشارع والخروج فيه صنوا لدى المغربي للعصيان المدنى، وأتى بفضل الحركة وبفضل احتجاجات كثيرة شهدها المغرب في هاته السنوات الأخيرة وقت آخر على الناس، فهموا فيه أن المسألة برمتها تندرج ضمن المطالبة بحقوق قد تكون موضوعية فتتم الاستجابة لها، أو قد تكون غير صائبة فيتم تجاهلها وكفى.
لعلنا أصبحنا في الختام مثل دول أخرى عرفت معنى التحضر ومعنى التظاهر السلمي للمطالبة بالأشياء التي تستحقها، والتمييز في نفس الوقت الوقت عن الأشياء غير الممكنة التحقيق.
وفي هذه يمكننا القول إن الحركة كانت تمرينا ديمقراطيا رائعا لمواطنين لم يألفوا تمرين الخروج إلى الشارع هذا إلا في سنوات بعيدة الآن لكي يصطدموا بقوات الأمن أو لكي يقعوا جرحى وفي حالات أسوأ أخرى لكي يتركوا أرواحهم في المظاهرات، مما قطع معه المغرب بشكل نهائي وتام.
الحركة وخرجاتها الديمقراطية علمتنا أنه من الممكن أن نخرج في وقت محدد، لكي نطالب بشيء محدد، ولكي نرفع شعاراتنا المحددة، (مع أن الحرك رفعت الشعارات ونقيضها وكل يوم في شكل) ثم لكي ننتهي في وقت محدد ونعود إلى منازلنا تقريبا مثل أي أناس متحضرين، وذلك أمر كان هاما وأساسيا لتطورات عديدة لاحقة في البلد.
والحركة علمتنا أيضا أن الخروج إلى الشارع ليس سيئا إلى هذا الحد، بل قد يحمل إلينا إجابات عن عديد الأسئلةو التي تبقى حبيسة مقرات أحزاب لديها لعبتها الخاصة بها وأجنداتها الخاصة بها ومحركات بحثها التي يعرفها فقط المعنيون بها.
الحركة شفت اللثام عن طبقة سياسية جديدة هي طبقة شبان لم يكن لهم أن يعتلوا يوما صدارة أحداث الوطن، لو ظلوا أسرى قيادات حزبية شائخة، وأكدت أن المغرب الجديد يحبل بالطاقات، وأنه ولاد وأنه قادر على الإبداع شرط إتاحة الفرصة لهؤلاء الوافدين الجدد لكي يقدموا عرضهم السياسي بأخطائه وبسلبياته ولكن أيضا بتفوقه وإيجابياته
سوى أن الطبقة الحزبية الشائخة رفضت واستطاعت التحايل على تجديد نفسها، وتمكنت من العودة، وتمكنت من إقبار هؤلاء الجدد، بمن فيهم أولئك الذين كانوا يحملون أفكارا إيجابية وجديدة أثناء الحراك. وهذا في حد ذاته ليس مشكلا، إذ الأهم منه أ ن الطبقة التي برزت ولدت وخرجت إلى الحياة وسجلت إسمها وربطته بهذا الحراك الشبابي، أمدتنا بسبب حقيقي من أسباب التفاؤل بتطوير مشهدنا الحزبي والسياسي المغربي، وجعلتنا نؤمن أنه من الممكن دون المرور من الآلية الحزبية المترهلة والمتكلسة ودون المرور من توافقات الكولسة التي قتلت عديد الأفكار في مهدها، أن يكون لدينا قادة جدد في الميدان وأن تقدم أجيال سنوات الألفين فما بعد تصورها وعرضها السياسي الذي لايمكن لقادة العقود السابقة أن يقدموه مهما حاولوا تمثيل دور الشباب ودور المنخرطين معنا فيما يفرضه العصر من تطورات .
تلك كانت دردشة خماسية الأبعاد وحديثا ذا شجون عن حدث سياسي كبير شهده المغرب منذ خمس سنوات، شكل بالنسبة لمن كان حب الوطن لديه مرتبطا ببعض من ذكاء فرصة انطلاقة جديدة، ولم يشكل – لحسن حظنا جميعا – فرصة التحاق بتوتر وقتال تعرفه بلدان أخرى أخطأت الموعد تماما مع التاريخ
هذا الخميس فقط عادت “فرانس 2″ إلى الحكاية السورية برمتها خمس سنوات بعد اندلاعها في مارس 2011
اتضح في الختام أن كل هذا الدم السوري الذي أريق، وكل هذا اللجوء إلى كل المنافي وكل هذا الدمار وكل هذا التمزق وكل هاته المعاناة سببها الأساسي أنبوب غاز وبترول تجرأ بشار يوما وقرر له طريقا أخرى غير الطريق الأولى.
أيستحق الأنبوب كل هذا الألم الذي وقع ويقع تحت مسمى التغيير والربيع العربي وبقية الأوهام؟
لنا السؤال مرة أخرى ليست أخيرة بطبيعة الحال