بقلم : المختار الغزيوي
لم يمت الثلاثاء. مات يوم باع وطنه..
لم يغلبه سرطان الرئة يوم 31ماي فقط، بل غلبته أطماع شخصية ودفع خارجي مستمر منذ 1975 لكي يحلم بجمهورية وهمية على المقاس، وبمنصب رئاسي على المقاس، وبأشياء أخرى كثيرة على المقاس، رغم علمه في دواخل دواخله أن هذا المقاس غير ممكن، بل مستحيل، بل لايوجد له سند على الأرض ولا في السماء أبدا.
إنتهى يوم الثلاثاء جسدا فقط، لكنه انتهى قبل ذلك بكثير سياسيا.
إنتهى يوم انتهت الحرب الباردة، لكنه لم يفهم.
شيء ما في الذهن الجنوبي، المتقد عادة، والذكي عادة، واللماح عادة، انطفأ عند عبد العزيز ولم يسمح له بامتلاك مايكفي من الحياة لالتقاط الحكاية كلها ووضع نقطة النهاية لها قبل أن تنتهي لوحدها مثلما وقع ذلك الثلاثاء.
لم يكن سيد قراره. هذه مسلمة، ولم يكن يستطيع أن يقول للسيدة الأولى مثلما تسمي عقيلته نفسها في المخيمات « ما الذي سيطبخه لنا العبيد هذه الليلة؟ » دون أن يلتفت جهة المرادية ودون أن يحني رأسه بخشوع كبير وهو يسأل الجنرالات المتنفذين هناك « هل مرت الأجرة سادتي؟ »
لذلك بدأ مشهده حزينا جدا، وهو يختلق حكاية كبرى تحولت من المطالبة بحقوق طلابية في الرباط ذات سنة إلى المطالبة بدولة بكاملها على أحضان الوهم في قلب الرمال المتحركة، بين سراب الواحات وبين غبش تلك الرؤية غير الممكنة التي تفرضها الرياح إذ تعلو فوق الكثبان فلاتبقي ولا تذر..
ولذلك تواصل مشهده حزينا، وهو يجر أمامه من لايمكن أن نسميهم إلا بالمهجرين من وطنهم، وليس اللاجئين ولا سكان المخيمات ممن حكمت عليهم الظروف أن يكونوا أسرى له طيلة هاته المدة.
ولذلك انتهى المشهد حزينا، وملك الموت سيدنا عزرائيل يراوح مكانه يوما بعد الآخر بين المرادية يفكر في قبض روح بوتفليقة المريض، أو بين الجزائر العاصمة يقرر التخلص من المراكشي الأكثر مرضا
في النهاية اختار الموت الرجل الثاني لكي ينتهي منه، قبل أن يدخل إلى المداولة من أجل النطق بالحكم مشهد الجزائر الحزينة بجلطتها الدماغية هي الأخرى، لا تتحكم في أطرافها ولا تعرف أي قدر سيسوقها إليه الكرسي المتحرك الذي لايعرف من يدفعه بالتحديد.
في الصحراء ذلك الثلاثاء، قرابة الخامسة بعد الزوال تحركت تيارات هوائية كثيرة. حملت معها ذرات رمل عديدة، وانتقلت من المكان إلى المكان حاملة الخبر للشساعة الممتدة في الزمان كله أن المراكشي – ذلك الذي كان الحسن الثاني رحمه الله يصر على تسميته بالمراكشي – قد رحل
سأل العديدون العديدين « وماذا بعد؟ »
ردت عليهم الصحراء بكل جبروتها : « رحل العديدون ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى أن يصبحوا بنفس قامتي لذلك لاخوف. هذا الموت كان قائما منذ مدة غير هينة، والثلاثاء تأكد بشكل مادي فقط، الآن هل سيمتلك الباقون هناك القدرة على بعض من حياء ومن حياة؟ »
رن السؤال في السؤال، وعند المتتبعين إجابة تبدو كالحاسمة « لو اختارت الجبهة استقلاليتها وهربت من أحضان من يدفع لها أكثر أي من الزبون الأول الجزائر لحل الإشكال كله، ولعادت الصحراء إلى مغربها عنوان تاريخ وحضارة وجغرافيا وكل أوجه الانتساب »
أما لو بقيت البوليساريو مجرد فراش يدخله ليلا الجنرالات لكي يبيضوا في فسقه أموال المساعدات الأجنبية ويطيلوا أمد معاناة الجزائريين، ومعهم معاناة المهجرين من وطنهم من المغاربة، وهذا هو المتوقع، فلن يكون لموت عبد العزيز مثلما حياته تماما أي معنى.
أسوأ شيء في الكون كله أن تكون حياتك بلا معنى، وأن يكون موتك أيضا بلامعنى. أن تعبر أربعين سنة ويزيد حاملا لوهم بين يديكك يعطيك الأجانب القدرة على إبقائه مشتعلا وإن كنت تحس انطفاءه، وأن تنتهي عقودك الأربعة في الحكم المضحك المتخيل، وأن تدفن في مكان ما غير قابل للتحديد، وأن تقيم عليك الجزائر ثمانية أيام حدادا لعلمها هي الأخرى أن عليها الاستعداد لموت قريب.
في الصحراء مثلما تقترحها الجزائر موت كثير، وفي الصحراء التي ننتمي إليها نحن يد مغربية تمتد بالحياة، وآفاق أخرى فتحت نفسها من كوة غسق دافئ بلون جد رومانسي خفيف يحمل إسم مرحلة مابعد عبد العزيز.
لننتظر وسنرى، في انتظار ذلك رحم الله كل من لم يبع وطنه ولم يخن، ألم يقلها المغاربة للمستعمر في النشيد الاستقلالي « والحمد لله رب العالمين، ولعنة الله على الخائنين »؟
بلى قالوها منذ سنوات عديدة ولازالوا يرددونها إلى اليوم.