مهما كانت قوة الكلمات التي ستحاول وصف الخطاب الملكي القوي لعيد العرش، فإنها ستظل عاجزة عن إشفاء الغليل، وعن العثور على التوصيف الحق لهذا الخطاب/الحدث حقا .
توقيت الخطاب كان أولى المفاجآت إذ اختار جلالة الملك في تصرف رمزي عميق استباق يوم الخطاب العادي لكي يوصل جلالته إلى شعبه أن انتظارات الناس تقابلها استجابة ملك، وأن جلالته هو الآخر متشوق للحديث مع شعبه ومكاشفته حول عديد الأمور، مثلما عبر الشعب عن تشوقه للإنصات لرأي جلالة الملك، ولحديثه عن كل مايجري في البلد بين مختلف الفرقاء
ثاني تميز في الخطاب لغته القوية، والحاسمة، والبعيدة تماما عن الإرضاء السياسوي لأي كان. هذا خطاب ملكي يتحدث مع شعب في لحظة جد مهمة من تاريخ البلد، ولغته يجب أن تكون بأكبر قدر من الوضوح ومن الصرامة، ومن الحدة مع النفس ومع الآخرين، لئلا يقال ذات يوم إن الجميع صمت، أو الجميع جبن أو الجميع اختفى
مرة أرى كان جلالة الملك فوق هذا الصراع الحزبي الصغير الذي نراه بأعيننا، ونلمس آثاره يوميا نحن الشعب، وارتقى إلى لحظة قولها مباشرة لكل من فكروا في الإضرار بالوطن فقط للحفاظ على مصالحهم الصغيرة العابرة: إذهبوا بعيدا عنا، فنحن شعب وملك هذا البلد سنحمي هذا البلد وكفى
نقط التميز الأخرى كثيرة في الخطاب، أهمها أن يشرح الملك لشعبه سر الحديث بتلك اللغة، وأن يبوح بمكنونه الداخلي سائرا على نهج استمر ثانية عشر سنة قواه ألا يخفي على الشعب شيئا وأن يقول الحقيقة وإن كانت قاسية مؤلمة جارحة، لكنها في النهاية الحقيقة.
الآن يأتي السؤال لمابعد الخطاب، ولكيفية تلقي من تلقوا كل تلك الصفعات للغة الخطاب ولرسالته وطريقة تفاعلهم معها.
الآن الشعب هو الذي سيطبق كلام الملك وسيقول لهؤلاء "كفى"، فماعاناه المغرب ومادفع ثمنه جراء اللعب الصغير التافه، المصلحجي لبعض من هاته الزمرة الفاسدة لا يمكن أن يستمر، والمغرب يجب أن يبقى فوق الجميع، وتلك هي الكلمة الفصل في هذا الموضوع كله، وماسيأتي فيما بعد لن يفعل إلا أن يؤكدها بكل اختصار.
هاته "الكفى" التي رفعها الملك في وجه هؤلاء يوم السبت رفعها الشعب قبله في كل المناسبات التي أتيح له التعبير فيها عن رأيه. رفعها في وجه أحزاب سياسية أمامها وقت طويل لكي تقنع الناس أنها أحزاب سياسية حقيقية. ورفعها في وجه منتخبين وساسة كانوا دائما قادرين على إخلاف كل المواعد مع ناخبيهم، ورفعها في وجه مسؤولين عدة كان السؤال على لسان الشعب مستمرا وأبديا "واش ماكيحشموش؟". جلالته قالها في الخطاب وسأل هؤلاء "ألا تخجلون؟" معبرا بلسان الناس عما يخالج مشاعر الناس الفعلية…
ولأن من أبناء الناس من يحمي الناس فإن تلك الإشارة القوية في الخطاب إلى دور أهلنا وأبنائنا من حماة الوطن وأمنه كانت ضرورية وأساسية، لأن الكل يعرف أن الدور الحاسم الذي يلعبه هؤلاء في السهر يوميا على حماية كل شبر من هذا البلد، هو دور مقدس وعظيم، وإطلاق ألسنة عليهم في مواقع التواصل الاجتماعي أو غيرها من أماكن الثرثرة الفارغة الهدف واضح منه، وهو إضعاف دور هؤلاء تدبيرا لما لانعلمه من مخططات، لذلك كانت الكلمة الملكية واضحة: الإشادة بالدور، والتذكير أن هروب مؤسسات الوساطة من المواجهة الحضارية هو الذي جعل المواطنين يواجهون رجال الأمن في الحسيمة أو غيرها
ثم كانت تلك الكلمة الأساس: ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعلى مايبدو وصلنا مرحلة ضرورة رؤية آثارها مجسدة في المحاكم والسجون، لأن بعض الوجوه تصلح إما للمحاكم وإما للسجون، وهي قطعا لاتصلح لتدبير أمر الناس واللعب بهذا التدبير. بل أكثر من هذا يمكن القول بإطمئنان إن عددا من شباب "الحراك" ممن لم يتورطوا في عنف أن اتصال مع طرف أجنبي أو غيره مما يجرمه القانون، من الحرام أن يكونوا في السجن وأن يكون بعض من هؤلاء المسؤولين طلقاء يعربدون على الشعب ولا يحسون بطرفة خجل أو حياء، ولا بوخزة ضمير وهم يرون انعكاس لامسؤوليتهم وعدم اشتغالهم على معيش الناس اليومي.
يوم السبت الفارط كنا قرابة الأربعين مليون مغربية ومغربي، متعلقين بشاشات تلفزيوننا، أو بمذياع سياراتنا أو العربات التي نركبها أو بحواسيبنا وهواتفنا النقالة، نتطلع لما سيقوله الملك، ونعرف أن هذا الملك لن يخيب آمال هذا الشعب، فحكاية ثورة الملك والشعب ليست حكاية تاريخية ترويها لنا الجدات قبل النوم.
تلك الحكاية واقع كتب قبل الزمن بزمن طويل، قال لنا إن القدر في هذا البلد أن نكون معا لأجل تخليص وطننا من هؤلاء الذين لايريدون به ولا له خيرا…
حمى الله المغرب العظيم.