بقلم ـ نور الدين مفتاح
ما الذي تبقى من حراك الريف بعد هذه الشهور الطويلة من الغليان؟ إنها بعض من ندوب مؤلمة لابد أن تعالج. بقيت قيادة هذا الحراك وعشرات المشاركين فيه خلف القضبان. بقيت غمامة تخيّم على كل المبادرات التي تريد للبلاد أن تتجاوز هذه الصفحة المؤلمة، إلا أن أصحابها لا تتاح لهم الرؤية الواضحة لما بعد الوساطة وأفق الحل يبدو جد معقد.
لقد نجح حراك الريف على العموم في تحريك الكثير من السواكن، ووضع عمل الحكومة ونجاعته أمام المرآة، وجعل مركز السلطة في البلاد يعيد تقييم المشاريع المطلقة والإصلاحات المبرمجة. لنتذكر المجلس الوزاري الذي دخله الملك محمد السادس غاضبا وخرج منه غاضبا، وأعقبه بلاغ شديد اللهجة قرع الحكومة ومنع وزراء من العطلة الصيفية، وأعلن عن تكوين لجنة تحقيق عهدت للمفتشية العامة بكل من الداخلية والمالية لمحاسبة المقصرين في تنزيل برنامج "الحسيمة منارة المتوسط"، الذي تم توقيعه أمام ملك البلاد.
لنتذكر خطاب عيد العرش الذي أعاد فيه الملك تقييم أداء الإدارة والطبقة السياسية في البلاد في أكثر الانتقادات اللاذعة التي عرفتها هذه الفئات في تاريخ البلاد، ووصل إلى حد سحب الثقة رمزيا منهما، وكل ذلك كان وراءه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حراك الريف.
وإذا كان هذا الحراك مبرراً بعد شرارة وفاة السماك محسن فكري التي أطلقت لهيب الغضب في الريف المغبون، وهذا يستشف أيضا من التدخل الملكي في الموضوع، فإن انزلاقات مظاهرات عارمة مثل التي شهدتها الحسيمة ونواحيها لمدة شهور هي بمثابة الأعراض الجانبية لأي تدخل بالجراحة أو الدواء. هي أعراض جانبية كان لها ضحايا من المتظاهرين والمحتجين ومن رجال الأمن كذلك. إن الخيط الدقيق الذي يفصل بين الحق الطبيعي في الاحتجاج من جهة، وضرورة الحفاظ على النظام العام من جهة أخرى، يصبح في حالة الانتقال الديموقراطي البطيء الذي تعيشه المملكة الشريفة أكثر دقة، بحيث يكاد يصبح مكروسكوبيّا، وإذا أضفنا إلى هذا عوامل التاريخ والتراكم الجيولوجي لسوء الفهم بين الساكنة والدولة، فإن كل شروط برميل البارود الذي نشعل بجانبه أعواد الثقاب تكون متوفرة. الحمد لله أن هذا البرميل لم ينفجر، وأن المملكة حافظت عموماً على استقرارها، وأن مشاريع الحسيمة تحركت، وأن هدف الحراك قد تم الوصول إليه، ولكن بقيت المخلفات التي تشوش على هذا الامتحان الذي اجتازه الجميع بأقل الأضرار، إنها متمثلة في ملف شائك وبسيط في آن، إنه ملف المعتقلين من إخوان ناصر الزفزافي.
ومما يزيد في تعقيد الأمور اليوم، التذبذب والتناقض الذي يحيِّر المعنيين وذوي النوايا الطيبة من أصحاب المبادرات الحسنة والمتابعين، فما نكاد نسمع عن تدخل سواء من المجلس الوطني لحقوق الإنسان أو من مبادرة الريف أو من نور الدين عيوش (مهما كان الموقف من الشخص لأن الأهم هو الموضوع والنتيجة)، حتى تظهر عناصر تعيد عقارب الساعة إلى الصفر، ومن ذلك التدخل لإيقاف إضراب عن الطعام للمعتقلين والنجاح في ذلك دون إمكانية الوفاء بالوعود، ليعود بعض المعتقلين وجزء من ذويهم إلى هذا الأسلوب الاحتجاجي القاسي، ومنها ظهور بوادر انفراج وانتظار العفو الملكي دون حصول ذلك، ومنها إشارات من الدولة مطمئنة بدخول شخصيات معروفة بارتباطها بالدوائر العليا على خط الوساطة، في الوقت ذاته الذي يستمر فيه نزول الأحكام القاسية على نشطاء الحراك. وقد وصل بصيص الأمل من الاتساع إلى حد تصريح الشخصية الحقوقية المحترمة ذ. النشناش، رئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان السابق، بأنه زار معتقلي الحراك، وضمنهم الزفزافي، أيام عيد الأضحى، وأنهم عبروا عن قناعتهم بأن مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية قد تحققت بما جرى رسميا من تفعيل لمبادرة منارة المتوسط، وأن مطلبهم الوحيد الآن للانفراج هو إيجاد صيغة لخروجهم من السجن.
ليست هيبة الدولة دائما مرتبطة بالصرامة ولا بالزجر ولا بإنزال أقصى العقوبات وأقساها على معارضيها إذا كانوا أصلا معارضين، ولكن هيبة الدولة تتمثل في الكثير من الأحيان في حسن تدبير الأزمات وتدوير الزوايا وتغليب المعالجة السياسية على المعالجة الجنائية، خصوصا ونحن أمام ملف ذي طابع اجتماعي إنساني بامتياز، اتخذ بعداً سياسيا وأخطأ فيه الطرفان في جانب من جوانبه. إن مصلحة المملكة الحالمة باحتلال مقعد ضمن الدول الصاعدة، والمتطلعة بإصرار على الريادة في القارة الإفريقية، هي في الجنوح إلى حل تتغلب فيه الحكمة على اليد الحديدية، وسبل ذلك اليوم متوفرة، والوسطاء نجحوا في تذليل المصاعب وإنضاج الفاكهة، فالأسلم هو قطافها بدل الجنوح إلى التصعيد والقول مع الحجاج: "إني لأرى رؤوسا قد أينعت وقد حان قطافها"!