تابعت هذه الجريدة، قبل أيام عودة سؤال شبهة التضارب في المصالح لدى المسؤولين العموميين إلى الواجهة، بعد تعيين محسن الجزولي في منصب وزير منتدب في الخارجية، وهو المالك لأحد أكبر مكاتب الدراسات المرتبطة بعقود وصفقات مع مؤسسات عمومية.
الواقع أن نظامنا الوطني للنزاهة، محتاج إلى الكثير من التدقيقات المتعلقة بقضية التضارب في المصالح، كسؤال حاسم في معركة تخليق الحياة العامة، بشكل يتجاوز محدودية التأطير القانوني الحالي الوارد في القانون التنظيمي للحكومة.
في السياق نفسه، نحتاج إلى مساءلة جدية لطبيعة الخبرة التي تقدمها مؤسسات خاصة للاستشارة لفائدة الفاعل العمومي، من حيث مرجعيتها المعرفية، وطبيعة الحاجة الوظيفية إليها، وأساسا من حيث شروط التعاقد بين السلطات العمومية ومؤسسات الخبرة .
ذلك أنه كثيرا ما تتحول بنود “الدراسات”، في ميزانيات المؤسسات العمومية، إلى نوافذ مفتوحة على سوء تدبير المال العام، كما أن الصحافة سبق لها أن وقفت على حالات لعلاقات “مشبوهة” بين الجهات الطالبة للخبرة، وبين مؤسسات إنجازها.
بعيدا عن المغرب، وفي أخبار هذا الأسبوع، فضيحة جديدة لشركة أمريكية كبيرة للاستشارات. الشركة نصبت على سلطات بلد عربي في شأن صفقة إعداد خطة اقتصادية، حيث قدمت للحكومة خطة «بائتة» سبق إعدادها من طرف شركة أخرى العام 2010.
وفي سجل الشركة نفسها، وهي الأشهر تأكيدا في هذا المجال، الكثير من الفضائح والضحايا، وحكايات مؤلمة بدأت باستشارات باهظة لتنتهي بإفلاس مفجع، أو بتلفيق بئيس للأرقام والبرامج قاد قطاعات عمومية إلى كارثة مؤكدة.
تحقق هذه المؤسسة رقم أعمال خياليا، بقائمة طويلة للعملاء والزبائن الموزعين في كل العالم بين سلطات عمومية وحكومات ومقاولات خاصة وشركات وطنية ومتعددة الجنسيات.
المؤكد أنها ليست الوحيدة في مجالها. إذ على غرارها يزدهر اقتصاد منتعش مبني على بيع «الخبرة» وتقديم «الاستشارة» يخفي وراءه عالما كاملا من الصفقات الغامضة والعمولات والعلاقات المشبوهة مع شبكات ودوائر القرار السياسي والاقتصادي والمالي.
في سبيل تفكيك خفايا وأسرار هذا العالم، صدرت المئات من التحقيقات الصحفية المثيرة، ونشرت عشرات من الكتب الصادمة، وأنتجت أفلام وثائقية عديدة.
لكنه يظل عالما مستمرا في التمدد والتهام الضحايا، لأنه قائم على منطق السوق، وحسابات العرض والطلب، وعلى خلق حاجة للاستهلاك السياسي والعمومي، ليست سوى «وهم» بالخبرة و«الحقيقة التقنية».
في سياق هذه الصناعة المعتمدة على نوع من «المعرفة»، تكاثرت بيوت للخبرة من كل المستويات والأحجام والأصناف، وصارت جزءا من البنية المعقدة للفعل العمومي والسياسات العامة.
في متابعات الصحافة لحدث الفضيحة الأخيرة، انتبه المعلقون إلى مفارقة كاشفة: كيف ينوب بيت خبرة أجنبي عن الدولة في تحديد خطة حكومية؟
في خلفية المفارقة سؤال آخر: هل يمكن شراء وصفات التقدم والنجاح كما تشترى المعدات والبضائع؟
منتهى المفارقات المتوالدة يصل إلى طرح السؤال الضروري: ما الذي يتبقى للسياسي إذا تكفلت «الخبرة» بتحديد الأهداف والأولويات والبرامج؟
وما الذي يتبقى للناس وللشعوب إذا كانت هذه «الخبرة» مجرد وهم كبير أنتجته المنظومة السائدة وصنعه جشع البائع وتواطؤ المشتري؟