بقلم : حسن طارق
في النهاية، بالنسبة إلي على الأقل، فإن النتائج المعلنة لانتخابات 7 أكتوبر 2016، لا تشكل مفاجأة كبيرة. العودة إلى «المؤشر الصلب» الوحيد الذي كان يسمح الانطلاق منه القيام بعملية توقع موضوعي لهذا الاقتراع، وهو نتائج العملية الانتخابية ما قبل الأخيرة لعام 2015، كانت تعطي دائما خطاطة قريبة مما تم إعلانه أول أمس.
إذ، عموما منذ ذلك الوقت، لم يقع أي متغير كبير ونوعي من شأنه تغيير المزاج الانتخابي للرأي العام، إن لم تكن بعض الأحداث قد أسهمت في بناء مفعول عكسي لأهدافها المنتظرة، مثل مسيرة مناهضة الكراهية بالبيضاء، أو مثل سلوكات بعض أعوان السلطة الذين أخلوا بالتنافسية الانتخابية الطبيعية…
في هذه الجريدة، مثلا، أجريت العديد من الحوارات مع الخبير في السياسة الانتخابية، الأستاذ مصطفى يحياوي، الذي كان يؤكد دائما أن تفريغ نتائج الانتخابات المحلية والجهوية، على الوعاء والتقطيع الانتخابيين، يعطي تقدما واضحا للعدالة والتنمية، متبوعا بالأصالة والمعاصرة.
في العمق، فإن الفرضيات والخلاصات الكبرى التي دافعنا عنها في قراءة استحقاق 2015، تظل صالحة لتحليل نتائج الاقتراع التشريعي الأخير.
أولا: تكريس واقع الثنائية الانتخابية، ممثلة في تنظيمين سياسيين مهيمنين على المشهد الحزبي، ويبتعدان كثيرا عن باقي الأحزاب الستة المكونة للخريطة الحزبية الممثلة في المؤسسات.
هذه الثنائية استمرت في إنتاج آثارها السلبية على باقي مكونات المشهد الحزبي، سواء من خلال القضم المستمر في قواعدها الانتخابية، أو من خلال أدائها ضريبة التصويت النافع الذي فرضته حدة التقاطب السياسي، وهو ما يمكن اعتباره من عوامل تفسير تراجع التقدم والاشتراكية (جراء فرضية التصويت النافع للعدالة والتنمية)، والاتحاد الاشتراكي (جراء فرضية التصويت النافع للأصالة والمعاصرة).
ثانيا: استمرار وتكريس العودة التدريجية للسياسة داخل الحقل الانتخابي، الذي لم يعد مجرد محكوم بعوامل اللاسياسة: العائلة، النفوذ، والتراتبيات الاجتماعية، المال، والقرب من السلطة… بل أصبح مخترقا بنفس سياسي يعطيه قابلية للمقروئية كمجال للصراع بين المشاريع السياسية، ويسمح بتحولات في السلوك الانتخابي للمواطن الذي أصبح يميل نسبيا إلى إعطاء تصويته معنى سياسيا.
لذلك، فالحقيقة أننا بصدد تحولات عميقة، نتيجة إعادة تسييس فئات واسعة من المجتمع، والحفاظ على منسوب عودة السياسة الذي شكلته لحظة 20 فبراير.
وهنا لاشك أن جزءا من ناخبي العدالة والتنمية، من خارج دائرة «الزبناء التقليديين» للحزب، قد صوتوا للوائحه وهم يتمثلون فعل التصويت كمقاومة للتحكم.
الحاصل أن كثافة التصويت السياسي أثبتت، من جديد، فعاليتها ليس فقط في الفوز الانتخابي للعدالة والتنمية على منافسيه السياسيين، بل كذلك على النظام الانتخابي بكامل هندسته وفرضياته (في عمود سابق في هذه الجريدة كنا قد وضحنا الأثر المحدود لتخفيض العتبة إلى 3%، ونبهنا إلى خرافة كون هذا التخفيض موجها نحو الأحزاب الصغيرة).
ثالثا: السقوط المدوي لفرضية التصويت العقابي في مواجهة العدالة والتنمية، ذلك أن الناخبين، عموما، لم يحولوا سلوكهم الانتخابي إلى موضوع للمساومة النقابية بين مصالحهم الاقتصادية وعروض الحكومة، وهو ما يمكن محاولة تفسيره بعاملين اثنين :
العامل الأول: يتعلق بطبيعة التقاطب السياسي الحاد الذي أنتجته خطابات كل من قادة العدالة والتنمية من جهة، وقادة الأصالة والمعاصرة من جهة أخرى، وهي الخطابات التي لم تجعل من الحصيلة الحكومية ومن العرض البرامجي موضوعا للنزال الانتخابي، معوضة ذلك برهانات سياسية فوق برنامجية: رهان المواجهة مع التحكم من جهة، ورهان مواجهة الأسلمة من جهة أخرى.
العامل الثاني: يتعلق بأن الناخبين المنتمين إلى فئات من الطبقات الوسطى، والمفترض تضررهم من السياسات الاجتماعية للحكومة، لم يجدوا في المقابل أمامهم بديلا مقنعا وذا مصداقية.
رابعا: استمرار «أثر بنكيران» كأحد العوامل المفسرة للقوة الانتخابية والسياسية للعدالة والتنمية، خاصة مع التدبير السياسي لمرحلة الحملة الانتخابية وما قبلها، وتطوير بنكيران شبكة من المفاهيم والرموز الدلالية للتواصل الفعال والنافذ مع الشعب، وبنائه خطابا يعتمد على شخصنة التفاعل مع الجمهور (في تتبع المتن الخطابي للحملة، كان لافتا لجوء بنكيران إلى آلية « «le jeفي بناء تعاقدات عمومية مع الناخبين باعتباره مرشحا لولاية ثانية)، بالإضافة إلى نجاحه في الربط بين مستقبله السياسي وفوز حزبه.
خامسا: استمرار ظاهرة الانحدار الانتخابي لليسار، والتي انطلقت منذ 2007، والتي تعود إلى أسباب تاريخية وهيكلية، تعززت بالحالة المثيرة للشفقة التي أصبحت عليها بعض قياداته جراء فقدان استقلالية قرارها.
وهنا لا بد من الإشارة إلى «ظاهرة نبيلة منيب» كدلالة التعبير عن حجم التعاطف الذي لقيه هذا الصوت اليساري الجديد داخل أوساط المثقفين والشباب والنساء، والذي يوضح استمرار الطلب على يسار عصري منفتح ومستقل، وإذا كان هذا التعاطف لم يحول إلى نتائج انتخابية لأسباب مفهومة، فهو دليل أمل على أن التيار الاشتراكي الديمقراطي موجود داخل المجتمع، وعلى أن أزمته هي مجرد أزمة تنظيمات وقيادات.