بعيدا عما ينتجه التناول الإعلامي، من تبئير على الأشخاص والزعامات، فإن ديناميكية “الحَراك” الاجتماعي بالحسيمة، هي في الواقع تركيب لجيلين من أجيال الحركات الاحتجاجية: جيل الحركات الاحتجاجية المتعلقة بالمطالب المادية ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية، وجيل الحركات الاحتجاجية الجديدة ما بعد المادية، حيث تحضر المطالب الرمزية والهوياتية.
الجيل الأول يرتبط بعودة المسألة الاجتماعية، فيما يرتبط الثاني بانبثاق ظاهرة القدرة التعبوية للقضايا الثقافية والهوياتية .
التركيب بين الجيلين سمح بمنح المطالب الاجتماعية والاقتصادية وعاءً ثقافيا مشتركا، كما منح هذه المطالب قدرة تعبوية قوية باستثمارها لخطاب الانتماء الجماعي إلى مجال جغرافي ولغوي، تحيط به سردية مليئة بكثافة من الرموز (عبدالكريم الخطابي، 1958، 1984…)، ومخيال جمعي جريح، حيث لم تسمح الخطوات المهمة للمصالحة كما دشنها عهد محمد السادس، بتجاوز الندوب العميقة للماضي .
في التفاصيل، فإن الحركة الاحتجاجية، توفرت لها شروط حالة مدرسية: حدث تأسيسي قوي قادر على التأطير وخلق المعنى السياسي والشحنة العاطفية (وفاة محسن فكري). عنوان بحمولة استثنائية تعيد التذكير لكل بكل سردية التهميش و”الحكرة” (طحن مو). قيادة شعبية أنتجت الخطاب المطابق للحالة الاحتجاجية، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع مرجعياته وتركيبته (ظاهرة ناصر الزفزافي).
في التحقيب، يبدو هذا “الحَراك” منخرطا في لحظة ما بعد الانفجارات الحضرية الكبرى (1965/ 1980/ 1984 /1990)، والمتميزة بالاحتجاجات التي عرفتها مدن مغربية صغيرة ومتوسطة انطلاقا من العام 2005 (صفرو، سيدي إفني، تازة….)، على أنه يظل مختلفا في: امتداده الزمني، وقدرته على نقل “العدوى المجالية” في محيطه الإقليمي، وطبيعة قيادته الميدانية، وحجمه الجماهيري .
لذلك كله، فهذه الديناميكية الاحتجاجية، تبقى أقرب في الواقع إلى روح 20 فبراير، ذلك أنها من أعادت مرة أخرى التأكيد على حقيقة سوسيولوجية وسياسية تنتمي إلى “الاتجاهات الثقيلة” التي تخترق المجتمع المغربي، والتي تتعلق بترسخ عقيدة المساءلة لدى قطاعات واسعة منه، وتحرره من هواجس الخوف .
هذه التحولات المجتمعية، التي فرضت تصاعدا في ثقافة ديمقراطية الرأي (الاحتجاج على البيدوفيل الإسباني، وقائع الاحتجاج عبر وسائط التواصل على الوزراء الذين ارتبطوا بفضائح..)، وانفلاتا – شبه نهائي -للمدن من استراتيجيات التحكم الانتخابي (شتنبر 2015/ أكتوبر 2016).
كل هذه الاستطرادات ضرورية للقول بأن ما يقع في الحسيمة ليس أثرا لزعامة احتجاجية فردية استثنائية، ولا هو انفلات عابر في علاقة السلطة بالمجتمع، سرعان ما سينتهي بمقاربة أمنية تقليدية !
ما يقع هو تحول عميق في تمثل المجتمع المغربي لذاته وللدولة.
ما يقع يعني، كذلك، أزمة كبرى في الوساطة المجتمعية، بقنواتها الحزبية والنقابية والمدنية، وبنخبها ومثقفيها، تجعل استراتيجية الشارع خيارا مركزيا لدى المجتمع، وتجعلنا أمام خطاب “خام”، لم يتعرض لأثار “العقلنة” داخل مؤسسات التأطير وتدوير”المطالب”.
ما يقع هو عجز بنيوي لنموذج دولتي، ينطلق من “براديغم” الوصاية على المجتمع، عبر آليات عديدة للترتيبات الفوقية ذات المنشأ السلطوي .
هذا العجز يوضح اليوم أن التحكم في الأحزاب السياسية، لا يمكن مثلا أن يوازيه التحكم في خيارات الناخبين المدينيين، ولا أن يوازيه التحكم في الحركات الاجتماعية .
لذلك، يبدو التناقض اليوم واضحا، بين خيار عودة الملكية التنفيذية، وتهميش السياسة، والتعالي على المشروعية الشعبية، من جهة، وبين انفجار الطلب الاجتماعي، وتحرر المجتمع من تقاليد الوصاية وتمسك قطاعات واسعة منه بفكرة المساءلة .
الحل ليس في الاعتقالات والمحاكمات.
الديمقراطية هي الحل .