بقلم - حسن طارق
بكثير من الإصرار يتحول مصطلح “ما بعد الحقيقة (POST- TRUTH) ” من مجرد مصطلح جديد إلى ما يشبه مفهوما يلخص الإطار المعرفي الجديد (البراديغم)، الذي قد يقدم إمكانيات ومسالك لقراءة التحولات السياسية الكبرى التي تخترق زمننا المعاصر.
انطلقت الحكاية، بداية العام الحالي عندما قرر معجم أكسفورد البريطاني أن يدرج في طبعته المحينة، كلمة “ما بعد الحقيقة”، اعترافا من هذه المؤسسة الرصينة بقدرة هذه الكلمة على خلق مساحة تداولية قادرة على إنتاج المعنى، ذلك أنها استطاعت أن تحقق ارتفاعا في الاستعمال والانتشار تجاوزت نسبة 2000% بين العام 2015 والعام 2016.
محررو المعجم تواضعوا على تعريف هذا المفهوم باعتباره، “مجمل الظروف التي تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام من مخاطبة عواطف الناس وقناعاتهم الشخصية”.
لذلك، فما بعد الحقيقة، ليس بالضرورة كذبا، بل هو انتصار الحقيقة الجزئية والعابرة والعرضية، وتفوق للحقيقة العاطفية على الحقيقة الموضوعية، وللتمثلات على الوقائع، وللانطباعي على الواقعي.
قبل ذلك بأكثر من عقد، كان الباحث (RALPH KEYES) من أوائل الذين تطرقوا إلى هذا المفهوم، حيث خصص أحد مؤلفاته في بداية الألفية الثالثة للحديث عن “عصر ما بعد الحقيقة”.
هل يرتبط الأمر إذن، بمجرد صناعة إعلامية ونحت لغوي بدون مضمون معرفي، سرعان ما سيحفه النسيان ويطاله أثر الموضة العابرة؟ أم إن الأمر لا يتعلق سوى بإعادة إنتاج الانبهار المعتاد بمتتالية «الما بعديات»، والتي ظلت هاجسا دائما للمفكرين والفلاسفة، منذ الحديث عن «ما بعد الحداثة»، «ما بعد الليبرالية»، «ما بعد العلمانية» و«ما بعد الطبيعة»؟
عموما، ما يلاحظ اليوم هو ترحل المفهوم وتمدد استعمالاته، وهو ما يتضح بتحوله من دائرة السياسة الداخلية، إلى فضاء السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، في سياق ذلك شكل موضوع «ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام» أطروحة مركزية للتداول في فعاليات الاجتماع الأخير لمؤتمر الأمن العالمي في دورته الثالثة والخمسين بميونيخ بألمانيا (فبراير 2017)، كدليل على بداية تلمس النخب الدولية ملامح بزوغ نظام عالمي جديد، بمتغيرات استراتيجية نوعية وفاعلين جدد وتوازنات مختلفة.
المؤكد أننا نعيش على إيقاع تحولات كبرى تهم السياسة الوطنية كما تهم السياسة الدولية، تحولات تمس القيم والسلوكيات والسلطة والإيديولوجيات، قد يمر الكثير من الوقت من الزمن لاستيعاب حجمها وتداعياتها، قبل محاولة التمكن النظري والفكري من جوهرها عبر أطروحات مفسرة ومرشدة، وفي انتظار ذلك لا بأس من الاستئناس بمفهوم «ما بعد الحقيقة»، ذلك أنه وحده قد يستطيع توصيف عالم «البريكزيت» و«دونالد ترامب» و«بوتين»..
والمقبل أسوأ.