رشيد مشقاقة
لاحظت ـ زمنا ـ أن أحد قضاة التوثيق كان يؤخر قضايا الطلاق لعدة مرات. فلما سألته أجابني: لِمَ نَسْكُبُ الملح على الجرح؟ هذان المتخاصمان سينتهي خلافهما بالصلح. وعندما سألت أحد المحامين لِمَ يلتمس المهلة تلو الأخرى في القضايا الزجرية التي يؤازر فيها المتهمين أجانبي قائلا: في بداية ارتكاب الفعل الجرمي، تكون الأجواء مشحونة: عائلة الضحية تطالب بالقصاص، وأقارب المتهم يبحثون عن الحل، وإذا دخل الإعلام على الخط أصبحت قضية الموسم، أمَّا بعد أن تهدأ العاصفة، فغالبا ما يحصل مُؤازَري على حكم مخفف وقد يجبر خاطر الضحية!!
خطر ببالي هذان المثالان وسألت: لو أرْجئ البت في قضايا تأديب القضاة إلى حين دخول مشروع قانون السلطة القضائية إلى حيز التنفيذ، ألن نستفيد من عدة جوانب؟ ستهدأ العاصفة التي تناثرت بريحها أركان البيت القضائي، وسَتَأخُذْ المبارزة نفسا عميقا من التروي والتريث بدل الاحتقان والمزاجية، وسيَكُون لنا متى أتيحت فرصة الطعن في قرارات المجلس الأعلى للسلطة القضائية اجتهاد قضائي إداري حاسم في موضوع تفسير معنى التحفظ الواجب في سلوك القضاة، لا أن نُلوحَ به هنا وهناك، فيَفْقدَ معناه، فللقضاء كما في البلدان التي تأخذ بنظام مجلس الدولة كَلِمَة الفصل في مثل هذه المواضيع، وهو وحده متى حسم في الأمر بتركيبته التي شاءها مشروع قانون السلطة القضائية فلن يبقى ثمة نعيٌ على ما اتخذه من قرارات.
آفتُنا أن خزانتنا القضائية خالية من اجتهادات قضائية حاسمة في عدة مسائل خلافية كَدسَت فيها الخزانات القضائية المقارنة تراثا فقهيا وقضائيا رفيع المستوى. في موضوع المرأة دار نقاش وجدال وخلاف وإجماع حول قبولها قاضية، أمّا نحن فلا شيء لنا من هذا القبيل. في قضايا الإبداع ومدى تقاطعه مع الفكر وقدسية الأديان، هناك قرارات قضائية غاية في الروعة والإتقان، ولم تجد الهيئة القضائية المصرية حرجا في الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم «الكرنك» لنجيب محفوظ، إلى جانب الجمهور للوقوف عما إذا كان مؤلف الرواية قصد المشتكى صلاح نصر. هل لدينا حق شيئا من هذا القبيل. لا أبدا !!
ما الضرر الذي كان سيحصل لو أننا لم نحسم في موضوع القضايا التأديبية التي همت عددا من القضاة، وانتظرنا دخول قانونهم إلى حيز التطبيق. لِمَ لم نشجع بعضنا البعض على اتخاذ مثل هذا القرار؟ ألمْ يقل به وزير العدل السابق محمد الناصري رحمه الله: الهدم أسهل من البناء. ماذا يساوي بناء محكمة أو ترميمها أو سرعة الإجراءات بنظام المعلوميات، ولا رفع أجر القاضي، ولا إصدار قوانين الشكل والموضوع، ولا تطويق الإفلات من المحاسبة والعقاب، أمام عزل قاض أو إيقافه عن عمله، متى لم يتصِّل الموضوع بانحراف بيّن ثابت في سلوكه المهني. أمّا مفهوم التحفظ من عدمه، فالغرفة الإدارية بمحكمة النقض متى كتب لها أمر البت في هذا الموضوع هي من سيحدد طبيعته وعناصره وترتب آثاره وليس مجرد الرأي والرأي الآخر!!
ماذا يساوي الإشادة بمجهود أربع سنوات ونصف من الولاية أمام عيني طفل بريء يسأل والده القاضي أو أمه القاضية لم لمْ يذهبا إلى العمل هذا الصباح؟ هل يستطيعان أن يقنعانه بجواب ما؟ لا أبدا!!
قد نركب رؤوسنا أحيانا، فإذا لم يواجهنا الشاعر عمرو بن كلثوم بقوله سنجهل فوق جهل الجاهلينا ولمسنا الروية وبعد النظر والحكمة، عدنا إلى قواعدنا سالمين. أليس هناك أعدل من الخليفة عمر بن الخطاب الذي أطلق سراح الحُطيئة.
ألم نتمثل بالقول «العفو عند المقدرة»، فإذا كان الجناب الشريف الملك محمد السادس يملك حق العفو، بل ويسحبه متى لم يكن المشمول به يستحقه، وهو ما اجتهد بشأنه الرأي ووافقوا عليه، فإني لا أرى من حل لحالات القضاة الذين عزلوا إلا بأن يُسبغَ الجناب الشريف شآبيب عطفه وحبه على قضاته ومنحهم عفوا ملكيا فهذا، وحده الحل الممكن وقد سبق للملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه أن منح العفو لقاض، كما استفاد قاض في عهد الملك محمد السادس أيضا، من العفو من عقوبة تأديبية، لا ينبغي أن نقف وسط الطريق.
لو انتظرنا ثانية أو لحظة لما جرى ما جرى، ولكُتِبت للإصلاح القضائي نهاية سعيدة كمَا قالت الفنانة نجاة الصغيرة:
ـ لحظة دقيقة ثانية ثواني
ـ لحظة واحدة كان يجري إيه؟
ـ لو القدر كتب نهاية حِلوة
ـ كان يجرى، ويجرى حاجات كثيرة.
لكننا لن نفقد الأمل!!