بقلم : رشيد مشقاقة
صوت نِسائِيٌّ دافئ حنين يلامس جنح الظلام:
ـ رشيد…أفق..لن تستطيع الأكل بعد آذان الفجر!
وبدا المشهد أمامي ورديا:
كان يتوسط فناء الدار، قبالته تصمد مائدة خشبية بنية اللون، قصيرة القوائم، تستقبل ما يسره الله عز وجل من الرزق، ومن المطبخ تنبعث رائحة الرغيف، ثم تقدمت المرأة بوجه بشوش وبخفة نشيطة توزع الأكل وتقول لي ولأخَوَي:
ـ صُومُوا اليوم الأول، وليلة النصف، وليلة القدر، فلكم الأجر. لازلتم صغاراً!
امتزجت نصيحتها بنفير مزمار السحور مقبل إلى الزقاق، وظهر أمامي الرَّجُلُ، ينفح في آلته خلال شهر رمضان، ويشحذ سكين الكبش في عيد الأضحى، ويُضْرِمُ النار ليلة عاشوراء، ثم يَرْقُصُ بالشمعة في عيد المولد النبوي بموكب الشموع.
مِنْ هذه المِهنِ البسيطة صنع جيراننا من أبنائِهم أطرا عليا بهذا البلد العجيب، الناكر للجميل!
كان رجل البيت يتناول سحوره البسيط بقناعة ورضا وهدوء، يدفع إلينا بقطع الرغيف كي نملأ بطوننا، في ما تصدر عن الجالسة بجانبي ضحكة بريئة بعينيها الكبيرتين وشعرها الأسود الفاحم الطويل:
ـ إنه يفتعل المضمضة ليشرب الماء!
تقطع وصل الضحكات الصافية أصوات الجارات وهن ينادين أزواجهن وأبناءهن كي يفيقوا من النوم، هن ملأن قبل أسابيع طاحونة السوق الكبير، ووسط المدينة القديمة، يصنعن شيئا من لا شيء، ويخزنَّ ما استطعن لحاجيات الشهر، وخلت السطوح من الفواكه اليابسة. بين الجارات التحام أبدي وتكافل صادق لم تنل منه الفاقة ولا المرض ولا التعب، فَهُنَّ رحيمات في ما بينهن كالبنيان المرصوص. وهن رائدات في التنمية البشرية بلا قانون أساسي ولا يحزنون.
تتحرك المرأة أمامنا بثبات، ترفع يديها إلى السماء داعية لنا بالخير والنجاح والرزق خلال هذا الشهر الفضيل، تقول:
ـ رب اجعل يومه الأول فألا ويُمنا على أولادي.
يتمتم الرجل بالدعاء بصوت خفيض، وتقفز الطفلة من مكانها لتطل من النافذة على قارع الطبل، وقد أتى دوره لإيقاظ النائمين.
تكرر الصوت الدافئ الحنين يخترق جنح الظلام:
ـ قلت لك. أفق، ستجوع وتفطر نهارا إذا لم تتناول السحور.
تحاملت على نفسي، فتحت عيني، لم أر شيئا، لم تكن الدار هي الدار، ولا الأحبة أحياء، ولا المائدة هي المائدة، ولا الحال هو الحال. انتقل الوالدان إلى عفو الله وماتت أختي جميلة في رَيَعَانِ شبَابِهَا، رحمهم الله وأسكن موتانا فسيح جناته.
أنتم يا من تسكنون بضواحي المدن والقرى، لم تموتوا بعد، ولن تموتوا، أنتم في قلوبنا وعقولنا أباء وأمهات وإخوانا وأزواجا ما كَتَبَ العمر حروف الحياة، بكم ولكم نحيا. رحمكم الله في هذا اليوم الأول من الشهر الفضيل، ورمضان كريم!