بقلم : رشيد مشقاقة
لنضحك قَلِيلا:
صاح ـ عبر الهاتف ـ محتجا:
ـ أخْبَرَنِي أحدهم أنك لن تشير إلى اسم جمعيتي بالملصَقِ!
أجَبْتُهُ قائلا:
ـ بلى.. وللتوضيح سَنَكْتُبُهَا بالبنط العريض!
أحسست به سعيدا. فهو ـ بناء على طلبه ـ سيشارك المنتدى المغربي للقضاة الباحثين نَدْوَة علمية، فَلَهُ الأهلية والصفة والمصلحة في ما احتج به، ثم رن جرس الهاتف ثانية:
ـ عفوا، أَخْبَرَنِي أحدهم أن اسم جمعيتي تحمله جمعيات أخرى، إذا تفضلت بذكر اسمي العائلي والشخصي أسفل اسم جمعيتي سأكون ممتنا!
بدا لي الموقف غريبا جدا، لم أشأ أن أطيل الحديث فقلت:
ـ لا بأس، وإذا اقتضى الأمر سننشر صورتك أسفل اسمك واسم جمعيتك!
أحسست بفرح طفولي من آهته المسترخية، وحمدت الله أن مر اليوم بأكمله دون أن يُعَاوِد الاتصال بي، لكن ظني خاب عندما وجدت بالهاتف رسائل تَحُثنِي على الاتصال به عاجلا!
ـ أرجو أن يكون الداعي خَيرا.
ـ لا، فقط أخبَرنِي أحدهم أنك قبلت مشاركتي فقط كي أمول اللقاء، أريد فقط أن أتأكد!
كدت أصرخ في وجهه، فمصاريف اللقاء برمتها لا تسمن ولا تغني من جوع. وقد دفع نصفها، بل وعبر غَيْرَ مَا مَرَّةٍ عن رغبته في إعفائنا من اقتناء بعض المستلزمات.
قلت بهدوء.
ـ يمكننا أن نلتقي بمكان عقد الندوة.
استقبلني بابتسامة الأطفال:
ـ بُشرى لنا، اللقاء العلمي سينجح، أنا متأكد. أبدت عدة شخصيات وازنة رغبتها في الحضور.. فلان وفلان..وفلان.
قاطعته:
ـ هل تسمح لي أنْ أرد لك المبلغ الذي شاركت به، على أن تظل مشاركا معنا بالمواصفات نفسها التي ترضيك!
استشاط غضبا، وارتمى نحوي مُقبِّلا:
ـ لا.. لا تقلق مني!
أشْفَقتُ من حَالِه، واحتفظت ـ على مضض ـ بالمبلغ. اطلع على الملصق، فأشرقت أسارير وجهه ورقص بِرِجْلَيْهِ. وضع تحت إبطه معظم الملصقات قائلا من أمام مقود سيارته:
ـ سأوزعها في ربوع المملكة، سيزدحم الفندق عن آخره بالحضور، الندوة ناجحة بإذن واحد أحد!
في ذلك المساء، رنّ جرسُ الهاتف:
ـ اسمع.. الندوة ناجحة، أطر الوزارة رحبوا بها، أخبرني أحدهم قائلا: لِمَ لا أترأس ـ أنا ـ الندوة، أنا ملم بالموضوع، وأستطيع ضبط المحاور!
ـ نحن اخترنا شخصية علمية بارزة لإدارة اللقاء، ولا يُعْقَل أن يترأس المنظمون أشغال الندوة، ثم إن لك عرض ستلقيه وهذا كاف!
لم يعجبه كلامي، فأصحابه يعرفون حاله وينكؤون جروحه. ثم هو خائف أن يكون مجرد أخ صَاحِب الخيمة المُعَدة للعرس، فصاح محتجا:
ـ هذا هو شرطي للاستمرار في الندوة، أنا أُدِيرُ الندوة!
شرحت للَّجْنَةِ المنظمة حال صاحبي، فأشفقوا هم أيضاً من مأساته، ولم يروا مانعا أن يجلس وسط المنصة مديرا مادام سيقتصر دوره على نقل مكبر الصوت من محاضر لآخر.
في يوم الندوة، انتفخت أوداج الرجل، صال وجال بالمنصة، قمع هذا، وزمجر في وجه ذاك، وألقى خطبة عصماء ذيلها بعرضه قبل أن يقدم أسماء المحاضرين، وكلمّا التفت إليَّ أحد منهم كلّما غمزت بعيني تهدئة للأجواء، وحمدت الله عز وجل أن انتهى اللقاء.
لم أكد أَسْعَد بِقِسْط من الراحة بالمنزل حتى رن جرس الهاتف:
ـ اسمع، نجح اللقاء كما قلت لك، لقد أخَذْتُ الصور وشرائط التسجيل، سأعفيك من تقديمها للوزير وأطر الوزارة. لا تحمل هَمًّا!
أخبرني المصور أنَّ صاحبي استولى على الصور والشرائط، وأمره أن يتصل بي لأداء ثمنها، قمت بذلك مستسلما، فضحك المصور قائلا:
ـ يبدو أن هذا الرجل يعاني من خلل ما، فقد ظن قبل بدء العرض أنني من محاضري الندوة بناء على منظري الأنيق، فشرح لي ما يريد قوله في اللقاء دون أن أفهم شيئا، ولم يستغرب بعد ذلك عندما اكتشف أنني فقط، مصور الحفل!!
تأكد لي فعلا أنني كنت أمام حالة نفسية جد معقدة. وحمدت الله الذي مَنحَنِي هذه الطاقة من الصبر، ثم رنَّ جرس الهاتف في اليوم الموالي:
ـ اسمع، لن تنشر الندوة في مجلة أو كتاب حتى نوقعا معا على الإذن بذلك!
قاطعته:
ـ اسمع، لك الإذن بنشرها من الآن إلى يوم الدِّين!!
لم يكن قد أتم حديثه، سمعته يُدمدم:
… فقد أخبرني أحدهم أنك سوف تنشرها بدون ذكر اسمي!!
أقفلت في وجهه الهاتف بِعُنف، ولازال لغاية يومه مقفلا في وَجْهِهِ!!