بقلم : رشيد مشقاقة
أقيل وزيران للعدل في مصر، الأول لمّا قال إن ابن جامع القمامة لا يصلح أن يكون قاضيا، والثاني لمّا هدد بحبس من يتطاول على أسرته حتى لو كان نبياً “أستغفر الله” !
وقد رتَّبَ الكاتب صلاح عيسى ما قاله الوزيران في ” الأنا السفلي” التي تضم الغرائز والشهوات والنوازع الفطرية التي يحرص الإنسان ألا يعرفها عنه أحد سواه، حتى لا تهتز صورته في المجتمع، لكنها تظهر في فلتات اللسان أثناء الغضب أو السهو أو المزاح، فيستعين بها المحللون النفسانيون على فهم الشخصية !
وقد كنت إلى حين من الوقت أعيب على من لا يرفع عينيه عن الورقة التي يتلوها عدم قدرته على الارتجال، ثم تأكد لي بعد ذلك أن حاله لا تخرج عن حاجز نفسي يحوله دون مواجهة الجمهور، أو عدم إلمام بترجمة ما يفكر به إلى ألفاظ يفهمها الناس فنحن نفكر بالألفاظ.
لذلك عندما سمعت رئيس الحكومة الأستاذ عبد الإله بنكيران ينتصر لسياسة التكوين المهني “الحرفي” بقوله إن الدولة لم تعد في حاجة للأدباء والمحامين والقضاة، لأنها قطاعات غير منتجة آملا أن يصبح المواطن المغربي عملة صعبة تذكرت أستاذ الدروس التطبيقية في مادة القانون الذي كسر أمامنا نافذة القسم ودار بها ليشرح لنا معنى العقار بالتخصيص قائلا: هذه النافذة الخشبية تظل منقولا إذا لم تلتصق بالحائط، وعقارا بالتخصيص إذا التصقت به، وتمثل أمامي مشهد ذلك الوزير الذي همس في أذن الرئيس حسني مبارك أثناء تدشين مركز للوقاية من الكوارث الطبيعية قائلا: سنسميه مُبَاركْ للكوارث”.
الوزير أو الشخصية العامة متى فقد السيطرة على مناحي سلوكه، فهُوَ على خلاف الشخص العادي يثير الريبة والشك في مدى صواب ما يقرره أو يطبقه، إنه يمثل حكومة ودولة وشعبا، لذلك فإن قيد الدقة وضبط الانفعالات وعقل اللسان قبل الكلام فرض عين لامجال فيه للاجتهاد!
ولعل السر في ما ارتضاه رئيس الحكومة وسيلة لتبليغ ما فكر فيه هو أن المُزحة لم تخطر بباله إلا بعد أن وقف خطيبا أو قبل ذلك بقليل، فهو لم يهيء لها ورقة قبلية، فوقع في المحذور !
لم يكن ضروريا ولا مناسبا ولا لائقا أن ننعت القضاء بالقطاع غير المنتج، فهو صمام الأمان، وبه من الرأسمال المادي والمعنوي ما يغني البلد بكاملها، فلو أنه اضطلع بمهامه كما تقتضيها رسالته السامية منذ نشأ ببلادنا لما وجدت من يعبث بأموال الناس وأعراضها، ولما انهارت المؤسسات المالية الواحدة تلو الأخرى، ولا استقام سلوك الناس من زمن الطفولة إلى الشيخوخة، فالقضاء يستغرق الطفل والأسرة والمال والاقتصاد وكل ما يَريد للمرء على البال.
من باب التزيد واللـَّغـْو الخروج عن النص، وأذكر أني حضرت ندوة صحفية ترك صاحبها الحديث عن فتوحاته في قطاع العدل وانبرى لتكذيب القول المأثور ” إنّ بريطانيا تمنح قضاتها شيكات على بياض”. نحن القضاة نعلم أن هذا المعنى المجازي تؤكده القوانين الأنكلوسكسونية في طريقة تعاملها مع أجر القضاة. ولم يكن ثمة داع للإسهاب في هذه الجزئية التي تلقفها الإعلام الرخيص ونشرها ظُلمًا وبُهْتَانًا بين الناس.
لا يصح القول إن الأدب والقضاء والتعليم قطاعات غير منتجة بداعي تحويل البني آدم المغربي إلى عملة صعبة.
العملة الصعبة يا رئيس الحكومة الفاضل هي التي تدر على البلد المال الوفير من كرسي فارغ للأديب نجيب محفوظ وهو خارج الدنيا وتجلس عليه الأفواج من كل أنحاء العالم لتجلس عليه من باب الخلود.
العملة الصعبة للرأسمال المعنوي الذي يغذيه العلماء والمفكرون والشعراء والقضاة الفقهاء بما ينتجونه من علم وفكر وأدب وفقه، فتزدهر سياحة البلد وسياسته واقتصاده ومركزه الرفيع بين الأمم.
العملة الصعبة ينتجها الاستثمار في العنصر البشري الجاد، انظر إلى الأمية والجهل المتفشية في صغار القوم وكبارهم، بل في المهام التمثيلية عندما تتاح الفرصة للأمي والجاهل كي يسير قطاعات حيوية، ذلك لأن خلو الدماغ من الأدب والفلسفة والشعر والفقه بل والقراءة والكتابة هو أصل الداء.
قد لا يخرج ما جاء على لسان السيد الوزير الأول عن فلتة لسان، تدخل في زمرة المزاح الذي ألفه منه الناس، أمّا إذا كان فكراً يؤمن به، فقد صرنا نحن القضاة في نظره مثل القاضي ابن خلكان صاحب وَفيّاتِ الأعيان.
عندما قال له أحد المنتفعين: ” ما يكون الصاحب صاحبنا حتى يَعْرقَ جَبينُه مع صاحبه في جهنم” فاستشاط القاضي غضبا وردّ عليه:” نزلنا عند رغباتك كلها فما زدت إلا غلوا، حتى صرنا معك بضاعة رخيصة وما ترضى” !
كفى بالقضاء داء أن يواجه طواحين الرياح. ولا حاجة للمزيد !