عبد الله الدامون
الأسبوع المنقضي كان أسبوعا أسود بامتياز. الزفت في كل مكان، ابتدأ في جماعة «جمعة سحيم» وانتقل إلى كل مكان في المغرب، إلى درجة أن الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم استغلت انشغال الناس بالزفت فزفّتت القضية مع المدرب الزاكي فلم يأبه الكثيرون بذلك. معضلة المغاربة هي أنهم ينتبهون فجأة وبشكل جماعي إلى أشياء مرت عقود على وجودها، لذلك عندما ظهر الشاب عبد الرحيم في فيديو الزفت وهو يقتلع الطريق كما يقتلع قطع «بيتزا» بائتة، فإن الناس أحسوا بالصدمة مع أن أغلب طرقات المغرب، خصوصا في المناطق القروية والمهمشة شيدت بطريقة البيتزا البائتة. لكن رغم ذلك فإن الناس يغضبون فجأة ويرفعون أكف الغضب وكأن المغرب كان يشبه السويد قبل ظهور زفت جمعة سحيم. في كل مرة تظهر فضيحة مثل فضيحة الزفت يغضب الناس ويملؤون الفيسبوك بالشتائم والتعليقات ثم تمر الأيام، وأحيانا مجرد ساعات، فتظهر فضائح جديدة فينسى الناس الفضائح القديمة، فينشغلون بالفضائح الراهنة وهم ينتظرون فضائح جديدة، وأكبر دليل على ذلك هو أن لا أحد يتذكر عبد المجيد الويز، هذا الرجل الذي تم تقديمه إلى المحاكمة بتهمة إفشاء السر المهني في إطار فضيحة تعويضات صلاح الدين مزوار حين كان وزيرا للمالية. وقتها ترقى مزوار حتى صار وزيرا للخارجية، بينما أدين فاضح الفساد بشهرين حبسا وغرامة. مشكلتنا أن الزفت موجود في العقول وليس في الطرقات، لذلك هناك مئات، بل آلاف الأمثلة تشبه زفت «جمعة سحيم» وتعويضات مزوار، فالمغرب لا يطبق سرا نظرية «إقطع اليد التي تشير إلى الفساد وسينتهي الفساد»، بل يطبقها علانية ولا يهمه إن كان الجميع يعرف أنه يطبقها. المغرب لا يطبق هذه النظرية بحذافيرها فحسب، بل يضيف إليها الكثير من الملح، والدليل على ذلك هو السرعة التي تم بها القبض على صاحب الفيديو، في الوقت الذي يوجد فيه عدد كبير من المبحوث عنهم يطوفون البلاد طولا وعرضا، وبينهم تجار كبار في المخدرات ومختلسون ومقترفو جرائم خطيرة.
لكن أخطر ما في الأمر هو أن الناس اعتقدوا أنهم انتصروا حين تم إطلاق سراح صاحب فيديو الزفت، هكذا رأينا ذلك الفرح العارم بإطلاق سراح عبد الرحمان يُغرق وسائط التواصل الاجتماعي وكأنه إنجاز عظيم، ونسينا ضرورة محاسبة الفاسدين. نقفز فرحا بإفلات الأصبع الذي أشار إلى الفساد وننسى الفساد من أصله. هناك مسألة أخرى يجب الانتباه إليها بمناسبة فيديو «طريق البيتْزا»، وهي أننا اليوم في زمن «الويفي» و»اليوتوب» و»الفيسبوك» وما شاكل ذلك، وهذه وسائل رائعة لكي يصبح الناس على بينة مما يجري ويتبادلون المعلومات والصور في رمشة عين، وهناك أشرطة فيديو حققت ما عجزت عنه ملايين النسخ من الصحف والكتب، غير أن الناس يعتقدون أن هذا يكفي لكي يصبحوا أذكياء وأكثر قدرة على الفهم والتحليل، مع أن حكايات الفساد في تاريخ المغرب أنجع بكثير من اليوتوب والفيسبوك، لأن ما يجري اليوم في هذا البلد العجيب كان يجري منذ زمن طويل لأن العقلية استمرت هي نفسها، أي تبويء الفاسدين مناصب المسؤولية رغم أنف الناس، وهذا مصدر الداء ومنبع الفتن، وأبرز مثال على ذلك حكاية بوحْمارة.
فقبل أزيد من مائة عام، ظهر رجل اسمه بوحمارة، لا يزال المغاربة يتداولون إلى اليوم اسمه، أو لقبه، من دون أن يدرك كثيرون ما تخفيه حكاية بوحمارة من حكم كثيرة، على رأسها حكمة أن الفساد هو أكبر عدو للوطن والشعب، وهو أكبر مهدد للأمن والاستقرار. ففي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهر بوحْمارة يدعو الناس إلى اتباعه سلطانا، وبسط نفوذه على مناطق واسعة من البلاد، وتبعه قوم كثيرون، ليس حبا فيه بقدر ما كان ذلك سخطا على السلطة المركزية وفسادها. لم يكن بوحْمارة سوى كاتب بسيط في القصر السلطاني، لكنه كان ذكيا وعلى قدر كبير من التفقه في العلم الشرعي، وخدم في سلك المهندسين، وكان طوبوغرافيا في الجيش، لكنه فجأة دخل السجن بتهمة التزوير، فوجد إلى جانبه في الزنزانة شخصا يدعى المنبهي، وآخر اسمه أنفلوس، وهما معا أدينا بتهم ثقيلة بينها الاختلاس والفساد، لكن فجأة خرج الرجلان من السجن وصار الأول وزيرا للحربية والثاني تبوأ منصبا كبيرا، فلم يجد بوحْمارة بدّا من التساؤل مع نفسه: إذا كان عتاة الفساد يبلغون كل هذه المناصب المهمة بسهولة، فلم لا أصبح أنا، صاحب الجُرم البسيط، سلطانا؟ بقية الحكاية يعرفها الجميع، حيث أفلست الدولة بفعل حروب وفتن كان الفساد سببها الرئيسي، وبعد سنوات قليلة فقط سقط المغرب في براثن الاستعمار.
وهناك مثْلها ألف حكاية وحكاية.. ليست آخرها «طريق البيتْزا».