مؤامرة مكشوفة ضد المدرسة العمومية

مؤامرة مكشوفة ضد المدرسة العمومية

المغرب اليوم -

مؤامرة مكشوفة ضد المدرسة العمومية

عبد الله الدامون

قرب الباب الرئيسي لمدرسة خاصة شهيرة في مدينة مغربية كبيرة تقف سيارة للأمن. في بعض الأحيان تكون هناك أكثر من سيارة للأمن. وفي ساعات الدخول أو الخروج ينتبه أفراد الأمن جيدا لما يجري ويتفحصون محيط المدرسة بعيونهم الثاقبة حتى يتبينوا إن كان هناك غرباء قد اندسوا وسط التلاميذ الأنيقين، الذين يتوجهون رأسا نحو سيارات فارهة أو نحو سيارات النقل المدرسي. يحدث هذا في مدرسة خاصة شبه أجنبية توجد في منطقة راقية من النادر أن يمر منها منحرفون أو متحرشون أو باعة مخدرات أو غيرهم، لذلك فإن من يرى هذا المشهد يعتقد أن الدولة المغربية ينفطر قلبها من أجل التعليم ومن أجل مستقبل التلاميذ المغاربة. لكن هذا الانطباع مجرد وهم، وهذا الوهم يعرفه الجميع. في مدرسة عمومية بحي شعبي تقف، أيضا، سيارات فارهة قرب أبواب المدرسة، وهي ليست لآباء التلاميذ، بل لآباء آخرين من نوع مختلف يأتون خصيصا للتحرش ببنات الآخرين. في هذه المدرسة العمومية يمكنك أن تبحث عن شرطي، ليس في باب المدرسة، بل عن شرطي قريب، إلى حد ما، للمدرسة فلا تجد له أثرا. تتسلح ببعض الأمل وتتوقع أن تمر سيارة أمن بالصدفة من المكان فيطول انتظارك ولا ترى غير متحرشين بالتلميذات ومنحرفين يلفون «الجْوانات» أمام عيون الجميع وتلاميذ يتشاجرون بالأسلحة البيضاء وآخرون يتبادلون كلمات نابية، ترى كل هذا فتحاول أن تتذكر إن كانت تلك المدرسة الخصوصية التي رأيتها من قبل توجد في أستراليا، بينما هذه المدرسة العمومية توجد في المغرب. لو كان المغرب لا يزال يتوفر على تلك الأحزاب التي كانت تصدر بيانات نارية لأتفه الأسباب، فأكيد أنها كانت ستصف الفارق بين المدرستين بالطبقية المتوحشة وتقارنه بنظام الأبارتهايد، الذي كان سائدا في جنوب إفريقيا، لكن بما أننا نعيش في حظيرة والدنا الحنون «المخزن» فإن كل ما نراه يبدو عاديا، بل يجب أن يبدو عاديا.
في المدارس الخصوصية توجد كاميرات أمام أبواب المدارس ترصد كل كبيرة وصغيرة، وفي المدارس العمومية تحدث جرائم قتل مباشرة أمام الباب، ويجد الأمن صعوبة كبيرة في التعرف على القاتل. نحن بلد غريب حقا، فلا يوجد أي بنك في المغرب، من وجدة إلى الكْويرة، لا يتوفر على كاميرات في محيطه، مخافة غزو اللصوص، بينما مدارسنا العمومية محاطة بكل أشكال الانحراف ولا نترصده بالكاميرات. نخاف على «جُوج فرنْك» أكثر مما نخاف على فلذات الأكباد. نقيم الدنيا ولا نقعدها حينما يتعرض بنك للسرقة ونعتبر ذلك انحرافا خطيرا وتحولا نوعيا في المجتمع، ولا نأبه بجرائم القتل التي تجري على أبواب الأقسام، ولا بالمخدرات التي تروج داخل الإعداديات والثانويات والجامعات. يعلن الأمن حالة الطوارئ كلما تعرض بنك لمحاولة سرقة، ولا نحرك سبابة حين تتحول مدارسنا وثانوياتنا إلى مرتع للتحرش ودعارة القاصرات وترويج المخدرات. نرتعد خوفا على دراهمنا ولا نأبه بأعراضنا وأخلاقنا. 
لكن الفوارق الظاهرة التي نراها بين مدرسة خصوصية شهيرة وبين مدرسة عمومية نكرة هي مجرد فوارق بسيطة في الظاهر، فالفوارق الحقيقية توجد في الداخل، حيث يسير تلاميذ المغرب بسرعتين مجنونتين، تلاميذ المدارس الخصوصية الذين يعيشون وهم التفوق ويتوقعون الحصول على وظائف المستقبل بسهولة، وتلاميذ المدارس العمومية الذين يراد لهم أن يدرسوا من أجل تعزيز جيوش العاطلين، وفي النهاية يصل الجميع إلى نقطة واحدة، نقطة الصفر. ما يجري حاليا هو ترويج فظيع لأطروحة خطيرة تقول إن المدرسة العمومية انتهت، لذلك فإن هذه العناية الظاهرية المبالغ فيها للمدارس الخصوصية هي مجرد وسيلة لإعطاء الانطباع للمغاربة بأن من أراد أن يدرس أبناءه فعلا فعليهم بالمدارس الخصوصية، ومن أراد أن يضمن لأبنائه البطالة منذ الآن، فعليه أن يبقيهم بين جدران المدارس العمومية.
هذه الحملة المسعورة ضد المدرسة العمومية لا فرق بينها وبين سعار العقار أو باقي مناحي اقتصاد الريع. فكل ما يجري هو محاولة التحطيم النهائي للمدرسة العمومية لفتح باب الاستثمار على مصراعيه أمام وحوش التعليم، سيرا على خطى وحوش العقار، وعملية التحطيم تبدأ بتوفير الحماية الظاهرية للمدارس الخصوصية مقابل زرع الانحراف في المدارس العمومية، وتنتهي بترويج الأوهام حول الآفاق المفتوحة للمدارس والمعاهد الخصوصية مقابل انسداد الآفاق في المؤسسات التعليمية العمومية. إنها ثنائية اليأس والأمل، والذين يروجون هذه الثنائية لا يهدفون طبعا إلى الرقي بتعليم أبناء المغاربة، بل فقط للرقي بأرباحهم وحساباتهم البنكية.لم يتجرأ المسؤولون المغاربة على خصخصة كاملة للتعليم مثلما فعلوا مع مؤسسات اقتصادية كثيرة، فقرروا أن يفعلوا ذلك بطريقة ملتوية وماكرة فيها الكثير من مظاهر النصب والاحتيال على المغاربة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مؤامرة مكشوفة ضد المدرسة العمومية مؤامرة مكشوفة ضد المدرسة العمومية



GMT 15:55 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

الروس قادمون حقاً

GMT 15:52 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... أخطار الساحة وضرورة الدولة

GMT 15:49 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

زحامٌ على المائدة السورية

GMT 15:47 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

روبيو... ملامح براغماتية للسياسة الأميركية

GMT 15:45 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

سوريا قبل أن يفوت الأوان

GMT 15:43 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

البعد الإقليمي لتنفيذ القرار 1701

GMT 15:40 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

نقمة.. لا نعمة

GMT 15:34 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ابعد يا شيطان... ابعد يا شيطان

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 08:27 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
المغرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 03:28 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

يستقبل الرجاء الكوديم والوداد يواجه الفتح

GMT 03:05 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

تواركة يعمق جراح شباب المحمدية

GMT 08:39 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

عملة البتكوين تتخطى 80 ألف دولار للمرة الأولى في تاريخها

GMT 02:38 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تسعى لشراء قمح في ممارسة دولية

GMT 19:22 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 00:46 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

دبي تعلن عن أكبر صفقة عقارية هذا العام بأكثر من 137 مليون دولار

GMT 15:58 2019 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

المغرب الفاسي يسدد ديون الضمان الاجتماعي

GMT 06:55 2018 الأربعاء ,05 أيلول / سبتمبر

طريقة عمل بروتين لشعرك من "المواد الطبيعة"

GMT 01:31 2023 الثلاثاء ,17 كانون الثاني / يناير

آرون رامسديل يتعرض للانتقادات في آرسنال

GMT 20:41 2020 الأحد ,26 تموز / يوليو

غرف نوم باللون التركواز
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib