بقلم جمال بودومة
كنا في مكناس. الشهر غشت والحرارة أربعون درجة. سجنت نفسي في سطح البيت، وسط أغراض متخلى عنها وزوج حمام، وشرعت في حفظ مشهد من مسرحية «بيركليس أمير صور» لويليام شكسبير، كي أجتاز امتحان الدخول إلى المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي. المسرحية لا تصنف ضمن روائع شكسبير، حتى إن كثيراً من النقاد يترددون في حشرها مع أعماله الكاملة. «بيركليس» شكسبير، لا علاقة له بالديمقراطي اليوناني الشهير الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، بل هو مجرد تشابه في الأسماء. أمير صور، شخص تافه يفر من بطش أحد الحكام بعد أن يكتشف علاقة محرمة بينه وبين ابنته، لتتحول القصة إلى رحلة مليئة بالمغامرات على ضفاف المتوسط، ما يشبه «أوديسة» من الدرجة الثانية. كنت أتهجى السطور الأولى والعرق يتصبب من جبيني كأنني أتهيأ لمباراة في الملاكمة أو المصارعة الحرة وليس لمسرحية كتبها شكسبير. لم أستطع قراءة المسرحية إلى النهاية، ليس فقط بسبب الحرارة، بل لأنها مترجمة بشكل رديء، بلغة مقعرة تجعلك تفكر في رميها من السطح والارتماء في أول بركة أو نافورة بلدية، مادامت ضفاف المتوسط بعيدة عن المدينة الإسماعيلية! المترجمون في «سلسلة المسرح العالمي» لا يحفلون باللغة، إلا من رحم ربك. معظمهم لا تهمه سوى الدولارات الخليجية التي يجنيها في آخر العقد، ولعل أنسب شعار يجدر بالسلسلة أن ترفعه هو: «كوّر واعطي للاعور»… الأرجح أنني أبالغ، لأنني لم أستطع إنهاء «بيركليس». أعتقد أن كثرة الأسماء القديمة، وتوظيف الأساطير، التي لم أكن أعرف عنها شيئا، هو ما جعل هذه الكوميديا المقسمة إلى خمسة فصول، تبدو لي على هذا القدر من الصعوبة. أما «سلسلة المسرح العالمي» فقد ساهمت في محو الأمية المسرحية عند أجيال كاملة من العرب، ومن بين أعدادها التي لم تكن تباع بأكثر من عشرة دراهم، ترجمات موفقة جداً، أذكر منها على سبيل المثال «في انتظار غودو» التي وقعها الشاعر اللبناني بول شاوول. المهم. «بيركليس» لم تعجبني، لذلك اكتفيت بالمقطع الأول من الملهاة، وهو عبارة عن جمل مقعرة يرددها الشاعر گوير، الذي استدعاه شكسبير كي يلخص كل فصل من المسرحية، ويلقي بالمناسبة بعض العبر والمواعظ على الجمهور. المشهد الذي اخترت عبارة عن مونولوگ، أمام قصر علقت عليه رؤوس مقطوعة للأشخاص الذين لم يستطيعوا الإجابة عن اللغز الذي يطرحه عليهم الملك مقابل الحصول على يد ابنته… قضيت أياما أتدرب في السطح على ترهات گوير، تحت أنظار الحمامتين، أذرع «الخشبة» جيئة وذهابا وأهدد أشخاصا لا أعرفهم: يا أهل أنطاكية… مقطع عصي على الاستيعاب في مسرحية مملة وزوج الحمام يقبل بعضه البعض وهو يصدر هديلا غريبا. كنت أفضل أن أحفظ مونولوگا في الحب أو تقليد أصوات الطيور…. فكرت في التخلي نهائيا عن المشروع. «خممت» جديا أن ألغي رحلتي إلى الرباط لاجتياز المباراة وأخرج من باب واسع. المشكلة أنني لا أملك كثيراً من الحلول، إما «بيركليس أمير صور» أو العودة للاتكاء على سُور جامعة مولاي إسماعيل!
كنت قد أمضيت عامين في كلية العلوم ومللت من دراسة النباتات والأحجار والضفادع والصراصير في شعبة «البيولوجيا والجيولوجيا»، لذلك عزمت على تجريب شيء آخر. أي شيء المهم ألا أرجع إلى الجامعة، التي أصبحت سمعتها سيئة جداً بمجرد ما وضعنا أقدامنا في ساحاتها، اقدام الربح. بعد أن قلّبت كل الحلول الممكنة كي أغادر الجامعة، وجدتني أمام خيارين: الذهاب إلى روسيا لدراسة الطب أو الانتقال إلى الرباط لتعلم المسرح. الحمد لله أنني اخترت المسرح وإلا كانت العواقب وخيمة على الأبرياء. أتخيلني دكتورا يكتب الوصفات والشهادات الطبية وتغالبني الضحكة… لحسن الحظ أن الله رؤوف بالعباد! سلكت في النهاية طريق الرباط. صحيح أن «بيركليس» مسرحية غير مشوقة بأحداث مملة ولغة مقعرة، لكنها أقل تعقيدا من «راسكيي يازيك»، اللغة الروسية التي أمضيت عامين وأنا أدرسها دون أن أستطيع ضبط أبجديتها، ولا أتذكر منها شيئا آخر غير «تافاريش» التي كنا ننادي بها بعضنا البعض أيام الماركسية الأولى، وتعني «الرفيق»! إما «بيركليس» أو «تافاريش»! فضلت شكسبير. تدربت على المونولوگ كأنني أقدم سهرة أو حلقية نقاش، أحرك يدي بافتعال مضحك وأرفع راحتي إلى السماء كأنني أطلب المطر… لم أكن مقتنعا بالنتيجة، لكن أساتذة المعهد العالي للفن المسرحي كان لهم رأي آخر، ووضعوا اسمي على قائمة الناجحين، من يومها اعتبرت شكسبير صديقي لأنه لم يخذلني يوم احتجت إليه، بخلاف الكثيرين. التحقت بـ»الايزاداك» ودرست أربع سنوات لأتخرج ممثلا محترفا، وأستطيع أن أدعي اليوم أنني تفوقت في التشخيص على كل الزملاء الذين درسوا معي. صحيح أنني لعبت دورا واحدا لكنني أتقنته… أتقنت دور «الصحافي»، الذي أؤديه منذ عشرين عاما دون أن ينتبه أحد أنني «أمثل»، انطلت الحيلة على القراء والجرائد والقنوات الوطنية والدولية!