سعيد في المدرسة

سعيد في المدرسة

المغرب اليوم -

سعيد في المدرسة

جمال بودومة
بقلم: جمال بودومة

كنا صغارا وكانت محفظاتنا مليئة بالدفاتر، باستثناء سعيد الذي كان يملك كراسا واحدا يستعمله في كل الحصص: «دفتر خمسين»، مشدودة أوراقه بسلك رفيع. أما عُدّة الكِتابة عنده، فتقتصر على قلم جاف يثبّته على سلك الكنّاش اللولبي. تلميذ متقشف. لا مقلمة ولا قلم رصاص ولا ممحاة ولا أقلام ملونة ولا مسطرة ولا بركار ولا منقلة ولا هم يحزنون… «ستيلو بيك» أسود، رغم أن المعلم يطلب منا استعمال اللون الأزرق، لأسباب مجهولة. كان سعيد يعشق رياضة المشي عكس التيار. حالة الدفتر مزرية، يشبه كناش حسابات في أحد المصانع، نجا بأعجوبة من الحريق. على الغلاف غزالة رشيقة، كُتب اسمها بالعربية والفرنسية. وعلى ظهر الغلاف أرقام بخط رفيع: جدول الجمع وجدول الطرح وجدول الضرب وجدول القسمة… كانت فائدتها عظيمة في تلك السنوات، قبل ظهور «الأورديناتور» و»الأيفون» و»التابلات»!

الغزالة بلا قرون في دفتر سعيد. احترق جزء كامل من رأسها مع بعض الأحرف. الحقيقة أن سعيد هو من حرق الغلاف بشكل متعمد. أشعله بعقب سيجارة كان يدخنها أمام المدرسة في استعراض بطولاته أمام الأقران. سعيد كان «زعيم عصابة» حقيقي، أفرادها من «الكُسالى» الذين يحصلون على أحقر العلامات ويحتلون المراتب الأخيرة دون أن يرف لهم جفن. يفضلون اللعب وارتكاب الحماقات وافتعال المعارك ومعاكسة البنات، يعرفون أن مستقبلهم مضمون في أوراش البناء والأسواق الأسبوعية رفقة حمير تجر عربات… لماذا يضيعون وقتهم مع الدروس المعقدة والمعلمين المملين؟ في أسوأ الفروض سيصبحون «قطاع طرق» محترفين، يأكلون ويشربون على حساب الدولة… في أحد السجون. لذلك كانوا يتدربون على «مستقبلهم»، بشكل من الأشكال. ينجحون عاما ويكررون عامين، مثل سيارة قديمة في طريق صاعدة، ما أن تقلع حتى ترجع إلى الوراء. كانوا يمثلون تلاميذ في طور الانقراض، بعضهم بدأ في حلق لحيته قبل الوصول إلى «الشهادة الابتدائية». لم نكن نجرأ على مخالطتهم، رغم إعجابنا بمغامراتهم، لكننا نعرف أنها تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. أقصى ما كنّا نطمح إليه هو ألا تلحقنا شرورهم، لأنهم قادرون على الأسوأ!
كان سعيد مثل الزئبق، كلما أراد المعلم معاقبته يفلت من يديه. كان ينقطع عن الدراسة لمدة محترمة، وعندما يصل الخبر إلى والده يشبعه ضربا ثم يرجعه إلى الفصل، يلتقي المدير ويستأنف الدروس، قبل أن يغيب مجددا، بعدما يشبع من عصا السفرجل التي تترك بقعا زرقاء على الجسد. الفصل الدراسي كان في الطابق الأرضي، وكلما هم المعلم بضربه، يقفز من النافذة، قبل أن يطلق سيقانه للريح. مرة قرر المُدرّس وضع حد للمهزلة وأغلق كل النوافذ بإحكام قبل أن يتقدم نحو سعيد بعصا السفرجل مع ابتسامة شامتة، لكن سعيد هرب من الباب، بكل بساطة، لأن المعلم نسي إغلاقه، وسط قهقهاتنا. «اللي عندو باب واحد الله يسدو عليه».

والد سعيد يملك محلا لبيع الحطب، يتوافد عليه سكان المدينة في الشتاء كي يشتروا احتياطي الأعواد، في تلك المدينة الباردة. ذات شتنبر، جاء المعلم كي يقتني حصته من الحطب. وبينما كان يتجول بين الجذوع لمح سعيد معلقاً على شجرة، وقد فتح سرواله كما يفعل أي طفل يريد التبول. اقترب منه بغضب كأنه في القسم: «ماكتحشمش، هادي هي الأخلاق اللي كنعلمكم، يا الله انزل من تماك…»… سعيد، الذي استغرب وهو يرى دكان والده يتحول إلى فصل دراسي، لم يتردد في توجيه النافورة في اتجاه المعلم، بلّله عن آخره بأوكسيد الأمونياك، قبل أن ينطّ من الشجرة ويلوذ بالفرار. ولم يعد بعدها للمدرسة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سعيد في المدرسة سعيد في المدرسة



GMT 21:28 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

«هي لأ مش هي»!

GMT 21:25 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

الفعل السياسي الأكثر إثارة

GMT 06:07 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الجديد... أي أميركا ننتظر؟

GMT 04:35 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تتهدّد الحربُ الأهليّة لبنان؟

GMT 19:26 2024 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الانتخابات الأمريكية

نجوى كرم بإطلالات استثنائية وتنسيقات مبهرة في "Arabs Got Talent"

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 08:38 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

ميلانيا ترامب تظهر بإطلالة بارزة ليلة فوز زوجها
المغرب اليوم - ميلانيا ترامب تظهر بإطلالة بارزة ليلة فوز زوجها

GMT 15:54 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

حورية فرغلي تكشف موقفاً محرجاً بعد عودتها إلى التمثيل
المغرب اليوم - حورية فرغلي تكشف موقفاً محرجاً بعد عودتها إلى التمثيل

GMT 10:33 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أستراليا تحظر السوشيال ميديا لمن دون 16 عاماً
المغرب اليوم - أستراليا تحظر السوشيال ميديا لمن دون 16 عاماً

GMT 17:36 2012 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

مجموعة للعناية بالشعر وتقويته

GMT 12:24 2018 الأربعاء ,25 إبريل / نيسان

أولمبيك آسفي يخطط لضم 4 لاعبين في الميركاتو

GMT 17:23 2016 الثلاثاء ,12 إبريل / نيسان

مشوار المنتخب السعودي في تصفيات كأس العالم 2018

GMT 02:35 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

عفاف شعيب سيدة شعبية في مسلسل "فوق السحاب"

GMT 19:13 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

Jacob & Co"" تطرح مجموعة جديدة من المجوهرات الفاخرة

GMT 05:15 2018 الأربعاء ,24 كانون الثاني / يناير

موقع الواجهة البحرية في "رامسغيت" يتحول إلى إبداع فني

GMT 10:01 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

آخر الاتجاهات المميزة في عالم الموضة لعام 2018

GMT 05:26 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

أبرز أسباب انتشار قشرة الشعر خلال موسم الشتاء

GMT 15:25 2017 الثلاثاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

إيقاف لاعب كرة إكوادوري أربعة مواسم بسبب المنشطات

GMT 11:31 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

الاسباني فيليبي السادس يستعد لزيارة المملكة المغربية

GMT 04:51 2015 الأحد ,20 أيلول / سبتمبر

سمبوسك الجبن الذائب

GMT 12:39 2015 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

انفصال فيكتوريا جاستيس وحبيبها بيرسون فودي

GMT 04:27 2017 الجمعة ,28 تموز / يوليو

أطلقوا سراح العقل واعتقلوا كل الأغبياء !
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib