دسائس البلاط

دسائس البلاط

المغرب اليوم -

دسائس البلاط

بقلم - جمال بودومة

كان قدر الحسن الأول أن يموت عام 1894 في تادلة، تحت شمس الصيف الحارقة، خلال إحدى «حرْكاته» الكثيرة. خليط من المكر والعبقرية دفعا حاجبه باحماد إلى إخفاء الخبر عن الحاشية، كي لا تعم الفوضى في البلاد وينفذ «مخططه الجهنمي» بتواطؤ مع امرأة تركية في الرباط. باحماد الذي أنجبه أحد عبيد القصر، تسلق وصعد نجمه حتى صار رقما أساسيا في مغرب نهاية القرن التاسع عشر، وفجأة وجد نفسه يقرر في مصير «الإيالة الشريفة»، كما كان يسمى المغرب وقتئذ. هكذا أعطى أوامره – باسم السلطان – كي يعود الموكب إلى الرباط. وطوال خمسة أيام، جرّت البغال جثمان الحسن الأول في خيمة ملكية منسدلة، والكل يعتقد أن السلطان على قيد الحياة. عندما وصل الموكب إلى الرباط، كانت الجثة قد تحللت عن آخرها، وكان العبيد المكلفون بحراسة الموكب يتمايلون بسبب الرائحة الكريهة. حتى البغال التي تحمل الجثمان كانت ترفض السير من فرط النتانة، والعهدة على المستر والتر هاريس، المستشار الإنجليزي لمولاي عبدالعزيز، الذي ألف كتابا ثمينا تحت عنوان: «المغرب الذي اختفى».

كان العرف في «المغرب القديم» يقضي ألا تدخل الجثث من أبواب المدن، كي لا تنزل اللعنة على الجميع، لذلك حفر العبيد ثقبا في سور الرباط المحاذي للقصر لتدخل منه جثة السلطان. داخل البلاط، كان يجلس طفل لم تظهر شواربه بعد، يضع التاج مثل لعبة على رأسه وينتظر. كانت خطة باحماد الجهنمية دخلت حيز التنفيذ: الحاجب أرسل خبر الوفاة إلى الرباط على عجل، كي ينصب عبدالعزيز سلطانا للمملكة رغم أنه ليس بكر الحسن الأول وعمره لم يتجاوز 13 سنة. العملية تمت بتواطؤ مع أم عبدالعزيز، لالة رقية التركية، التي لعبت دورا حاسما في تثبيت ابنها على العرش، نكاية في بقية الورثة الشرعيين، وعلى رأسهم بكر الحسن الأول المعروف بـ»مولاي أمحمد الأعور».
أول شيء أقدم عليه باحماد، بعد نجاح الخطة، هو تصفية منافسيه داخل البلاط وفي مقدمتهم آل الجامعي، الذين كانوا يتمتعون بنفوذ كبير في عهد الحسن الأول: الحاج المعطي الجامعي كان يشغل منصب رئيس الوزراء أو الصدر الأعظم، فيما كان أخوه السي محمد الصغير وزيرا للحرب. قرر باحماد أن «يتغذى» بآل الجامعي قبل أن «يتعشوا» به، فاستدرجهما إلى مكناس لعقد أول اجتماع مع السلطان – الطفل بعدما هيّأ كل شيء. بمجرد ما دخل الحاج المعطي الجامعي، طرح عليه مولاي عبدالعزيز سؤالا تافها وهو يرمقه ببرود، وما إن شرع في الكلام حتى أوقفه باحماد متهما إياه بـ»البخل والشطط وارتكاب جرائم سياسية»، طالبا من السلطان أن يعاقبه. وفي رمشة عين «تحول الصدر الأعظم إلى رجل يثير الشفقة»، كما ينقل هاريس، «جرجره العبيد والجنود في باحة القصر وجردوه من عمامته واضعين على رأسه شاشية مخزنية وهم يقهقهون». أما أخوه السي محمد الصغير، وزير الحرب، فقد كان في منزله عندما اعتقله رجال باحماد. هكذا نُقل الأخوان الجامعي إلى تطوان، حيث أنشأ لهما عبدالعزيز سجنا يشبه «تازمامارت»، قرنا قبل أن يشيّد الحسن الثاني «معلمته» الشهيرة. كانت أرجل وأيدي السجينين مقيدة طوال الوقت. وحين توفي الحاج المعطي، بعد عشر سنوات من الاعتقال، لم يتجرأ حاكم تطوان على دفنه، دون إذن من السلطان، وبقي جسده يتفسخ في الزنزانة جنب أخيه، الذي انتهى بأن غادر المعتقل سنة 1908، شبحا آدميا بلا بصر، ليقضي بقية العمر متسولا أعمى في طنجة، كما يروي المستر هاريس، بغير قليل من التأثر. آخر مرة التقاه، نقل  الجامعي إلى المستشار الإنجليزي رجاء حارا: أن يساعده على أن يُدفن مقيدا بالسلاسل… كي يلتقي مع باحماد والمولى عبدالعزيز بكامل أغلاله، في دار الحق!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دسائس البلاط دسائس البلاط



GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

GMT 21:28 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

«هي لأ مش هي»!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 18:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة
المغرب اليوم - حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 18:36 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
المغرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 18:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
المغرب اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 07:41 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

إكس" توقف حساب المرشد الإيراني خامنئي بعد منشور بالعبرية

GMT 02:37 2024 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الأسهم الأوروبية تنهي تداولات الأسبوع على انخفاض طفيف

GMT 03:49 2024 الجمعة ,25 تشرين الأول / أكتوبر

كيف يمكن إحلال 40 مليار دولار واردات سنوية من مجموعة بريكس

GMT 21:29 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

الدولار عند أعلى مستوى في شهرين ونصف والين يتراجع

GMT 01:10 2024 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بعض دول الـ«بريكس» لها مؤشرات اقتصادية عالية

GMT 02:26 2024 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

ارتفاع الاحتياطي النقدي المصري 279% في 10 سنوات

GMT 02:41 2016 الأحد ,07 شباط / فبراير

دبي تطلق مشروع أكبر مكتبة في العالم العربي

GMT 03:05 2019 الخميس ,21 شباط / فبراير

ساندي تُبدي سعادتها بدورها في فيلم "عيش حياتك"

GMT 00:30 2018 الثلاثاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

عبد الحق الخيام يلقي نظرة الوداع على والدته

GMT 15:43 2015 الأربعاء ,14 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار سيارة بيجو 301 في المغرب

GMT 02:03 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

بالوتيلي يقود نيس للفوز على ديغون ومهدد بعقوبة مشددة

GMT 17:36 2024 الأحد ,14 كانون الثاني / يناير

بسمة وهبة تتعرض لهجوم حاد بعد حضورها عزاء والدة لطيفة

GMT 14:13 2019 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

داري يُنقل إلى مصحة خاصة لتشخيص إصابته
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib