بقلم - جمال بودومة
بالصدفة تعرفت على شخصية محمد تقي الدين الهلالي، بينما كنت أقرأ عن “إذاعة برلين”، التي أسسها مدافعون عن “القضية العربية” في نهاية الثلاثينيات، بتمويل من هتلر، وازدهرت مع الحرب العالمية الثانية. استوقفني وجود مغربي ضمن طاقم “الراديو”، الذي كان يحرّض العرب ضد الاستعمار الفرنسي والإنجليزي، ويمجد النازية. اقتفيت أثره بين الكتب والمقالات، واكتشفت شخصية استثنائية، عبرت القرن العشرين بالطول والعرض، وخلفت تركة تثير الدهشة والإعجاب وكثيرا من الجدل.
صحراوي من الريصاني، ولد في نهاية القرن التاسع عشر، درس في القرويين وجاب أطراف العالم، يطلب العلم وينشر “الدعوة إلى الله”، وهو عنوان أحد مؤلفاته الغزيرة، التي يختلط فيها الوعظ الشيّق بالسيرة الذاتية، قبل أن يعود إلى بلاده ويؤسس ما يعرف بـ”التيار السلفي”، الذي ما كان ليترسخ ويتوسع لولا شبكة العلاقات التي يملكها الهلالي في المشرق، والمكانة الرفيعة التي كان يحظى بها في المملكة العربية السعودية، لدى العلماء والعائلة المالكة على حد سواء، لدرجة أنهم عينوه مراقبا للتدريس في المسجد النبوي، وكانوا يعتبرونه من أكبر علماء “الوهابية” في القرن العشرين، مع الألباني وابن باز.
استهل الهلالي حياته “تِيجانيا”، يحفظ الأوراد ويؤمن بالكرامات. لكنه ثار على الصوفية بعد مناظرة مع شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي. وألف كتابا راديكاليا في نقدها تحت عنوان: “الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية” تسبب له في مشاكل مع الطرقيين، الذين تعج بهم المملكة. في نهاية الثلاثينيات، حصل على الدكتوراه في برلين، وصار مدرسا في جامعتها، ومشرفا على إذاعتها العربية، جنبا إلى جنب مع المذيع العراقي المثير للجدل يونس بحري، الذي كان يستهل نشراته: بـ”هنا برلين، حيّ العرب”، قبل أن يشرع في التحريض ضد الفرنسيين والإنجليز، والدعاية “للفوهرر”. كان بحري والهلالي ينسقان مع غوبلز، وزير الدعاية النازي الشهير، كي تصبح إذاعة برلين العربية بديلا حقيقيا للـBBC، التي كان يستمع إليها جمهور كبير من العرب، وأقنعوه بأن تبدأ برامجها وتنهيها بالقرآن الكريم، كي تستقطب مستمعين أكثر، وتسحب البساط من الإذاعة البريطانية. عام 1942 حل بتطوان، موفدا من مفتي القدس الشيخ أمين الحسيني ألى الزعيم عبدالخالق الطريس، لكن السلطات الإسبانية منعته من العودة إلى ألمانيا، فحول مقامه إلى نضال ضد الاستعمار وحرب على البدع والخرافات، قبل أن يتمكن من السفر مجددا إلى العراق. عاش طويلا في بلاد الرافدين وفي مصر والهند وألمانيا وإسبانيا والسعودية…. وترك كتبا وزوجات وأولادا في كل مكان مر منه.
أتقن الهندية وعددا مدهشا من اللغات، وتعد ترجمة تقي الدين الهلالي للقرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، مع محسن خان، الأكثر رواجا في العالم، كما ترجم صحيح البخاري إلى لغة شكسبير. جالس الأمراء والرؤساء وخمسة ملوك مغاربة: عبدالعزيز ومولاي حفيظ ومولاي يوسف ومحمد الخامس والحسن الثاني، وكان يتحدث معهم كما يتحدث عالم في القرن الأول للهجرة مع سلاطين عصره. في لائحة أصدقائه: شكيب أرسلان وأمين الحسيني وَعَبَدالخالق الطريس ومحمد بنعبدالكريم الخطابي… وفي لائحة تلاميذه: المغراوي والكتاني والفيزازي وأبو النعيم… الهلالي كان يشكل استثناء مغربيا قبل ميلاد “القاعدة”. وجه من وجوه السلفية المتنورة، التي آزرت “الحركة الوطنية”، وحررت العقول من البدع والخرافات. في الثمانينيات، تحول إلى “هرم” يُزار في مكناس، حيث اختار الاستقرار وإعطاء الدروس، حريصا على الفصل بين الدعوة والسياسة. وفي 1987، انتقل إلى جوار ربه، قبل أن يرى أفكاره تحمل السكاكين وتتزنر بالأحزمة الناسفة، وتلامذته يساقون إلى السجن، بتهمة التحريض على “الإرهاب”!
لا شك أن “الإيديولوجيا” التي أخلص لها الهلالي تسببت في كوارث وخيمة على ما يسمى بـ”الامة الإسلامية” و”العالم العربي”، لأن “الوهابية” أمّ “القاعدة” وشقيقتها “داعش”، وأصل كل الخراب الذي حل بالمنطقة، لكن ذلك لا ينقص شيئا من عظمة الرجل ومساره المتفرد. بعين التاريخ، سيظل مفخرة مغربية، وتجسيدا لما كان يسميه صديقه عبدالله كنون بـ”النبوغ المغربي”، ومن المجحف أن يظل صيت شخصية من عيار تقي الدين الهلالي، محصورا في الأوساط السلفية.