إذا صحت الأخبار التي تسربت من نقاشات وأشغال المجلس الأعلى للتعليم، والتي تداولتها بعض المنابر الإعلامية، والتي مفادها أن المجلس ينوي اقتراح تدريس الأمازيغية في الابتدائي فقط دون باقي أسلاك التعليم، فإنّ ذلك سيكون إيذانا بالعودة في موضوع الحقوق الثقافية واللغوية وتدبير التنوع إلى ما قبل الدينامية التي انطلقت سنة 2001، هذه الدينامية الجديدة التي تندرج في مطلع الألفية الثالثة في إطار “المصالحة الوطنية” في موضوع الهوية والثقافة، كما سيكون ذلك مؤشرا بارزا على الرغبة في الرجوع بشكل صريح وخطير إلى تكريس الميز الثقافي واللغوي بين المغاربة، بعد أن كدنا نغادر الوضعية المزرية السابقة، ونصل إلى مستوى إحداث التوازن المطلوب في الشخصية الوطنية، التي كانت تشكو من عرج دائم، واضطراب مزمن.
فمعلوم أن أول مبادرة رسمية اتخذت من أجل إقرار تدريس الأمازيغية في الابتدائي فقط كانت سنة 1994، في خطاب 20 غشت الذي ألقاه الملك الحسن الثاني آنذاك، وهي مبادرة محدودة لم تكن تتعدى في أهدافها التسوية الظرفية لمشكل اعتقالات الرشيدية، أي تخفيض التوتر وتصفية الأجواء قبل سنوات قليلة من رحيل الملك، ويفسر هذا لماذا لم يتم العمل بشيء مما ورد في الخطاب الذي تم نسيانه بالمرة ولم يخلف أي أثر يذكر داخل دواليب الدولة.
أما خطاب أجدير لسنة 2001 فقد جاء في سياق مغاير تماما واتخذ منحى شموليا وإجرائيا منذ البداية، كما ارتبط بشكل كبير بتجديد شرعية الملكية وطي صفحة انتهاكات حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مما جعل ما ترتب عنه من تدابير (ومنها تعميم تدريس اللغة الأمازيغية في نظام التربية الوطنية أفقيا وعموديا) التزامات عليا للدولة رصدت لها ميزانيات من المال العام، واستجابت لها برامج المؤسسات التعليمية والإعلامية، وتبلورت عنها مذكرات ومرجعيات رسمية ووثائق إدارية كثيرة لا يمكن تجاهلها ومحو فترة من التاريخ كما لو أنها لم تكن.
أمامنا اليوم وضعية مفارقة وعجيبة مليئة بالتناقضات، إلى درجة أننا نتسائل إن كان هؤلاء الذين يهيئون لاقتراح ما سلف ذكره قد أخذوا بعين الاعتبار المعطيات المتوفرة، والتزامات الدولة، والتراكمات الإيجابية السابقة، والمكتسبات المحصلة، أم أنهم احتكموا إلى المزاج الفردي المحض الذي لا يتعدى الرغبة في تصفية الحسابات مع “الشلحة” التي لا يشعر كثيرون منهم بالانتماء إليها، وينصبون أنفسهم رغم ذلك حكاما في مصيرها.
أمامنا مجلس يتكون من عشرات الأعضاء الذين لا يوجد بينهم فاعلون مدنيون من الجمعيات الأمازيغية، ولا مختصون في اللسانيات أو الثقافة الامازيغية (باستثناء عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وحده دون غيره) وبهذا يتكرر نفس الخطأ الذي ارتكب مع ميثاق التربية والتكوين في نهاية القرن الماضي، عندما اجتمعت أحزاب ونقابات وفاعلون يدورون في فلك الإيديولوجيا الرسمية ليقرروا في شأن التعليم في غياب كلي للفاعلين الأمازيغيين، المختصين في شؤون اللغة والثقافة الأمازيغيتين، وكانت النتيجة المادة 115 من الميثاق التي اعتبرت إهانة حقيقية للأمازيغ وللغتهم، مما دفع بهم إلى إطلاق إسم “الميثاق اللاوطني للتربية والتكوين” على الوثيقة التي تبلورت في غيابهم، كما سعوا عبر لوبي الضغط المدني ومن خلال الأساليب القانونية والسلمية إلى تغيير ذلك القرار المجحف، ونجحوا في ذلك بعد مدة وجيزة من خلال ما تحقق سنة 2001 بإقرار أن الأمازيغية “مسؤولية وطنية لجميع المغاربة”، وبإقرار تدريسها في كل أسلاك التعليم وإدراجها في الإعلام والشأن المحلي. وقد تحددت منذ ذلك الوقت في “منهاج تدريس اللغة الأمازيغية” الذي وضعته وزارة التربية الوطنية ثوابت ومكتسبات راسخة نرى ضرورة التذكير بها في هذا المقام وهي :
ـ أن الأمازيغية لغة وطنية لجميع المغاربة بدون استثناء شأنها شأن اللغة العربية.
ـ أنها تعمّم أفقيا على كل التراب الوطني وعموديا على جميع أسلاك التعليم.
ـ أنها تخضع لعمليات التهيئة اللغوية والمعيرة والتوحيد كغيرها من اللغات المدرّسة.
ـ أنها تكتب بحرفها الأصلي العريق تيفيناغ .
بناء على هذه المنطلقات أنشئت أوراش المأسسة في مجال النهوض باللغة والثقافة الأمازيغيتين، وإنقاذهما من الانمحاء السريع وإعطائهما المكانة التي تستحقانها، وكان التعاقد المبرم ينصّ على تهيئة اللغة الأمازيغية للعب وظائف حيوية في المجتمع والدولة.
وقد ظهر من خلال التجربة الممتدة ما بين 2001 و2011 بأن إقرار سياسة جديدة بدون ضمانات قانونية مآله الفشل، مما جعلنا نصر خلال العشر سنوات المذكورة على ضرورة دسترة الأمازيغية وإعطائها وضعا قانونيا يمكن من حمايتها داخل المؤسسات وإخراجها بصفة نهائية من سياسات الميز المتبعة، وقد تحقق ذلك مع دستور 2011، حيث أصبحت الأمازيغية لغة رسمية للبلاد بجانب العربية، واعتبرنا ذلك مكسبا تاريخيا لأنه يمثل الضمانة العليا لوضع حدّ نهائي لسياسة الميز.
وأمامنا أيضا دستور ينصّ بجانب الترسيم على ضرورة إصدار قانون تنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، وهو القانون الذي لم يصدر حتى الآن مع العلم أن الدستور ينيط به مهمة تحديد كيفيات ومراحل إدراج اللغة الأمازيغية في المؤسسات وأولها التعليم، بل إن التعليم هو المجال الوحيد الذي ذكره الدستور بالإسم في حديثه عن القانون التنظيمي للأمازيغية.
وأمامنا بجانب ما ذكرناه تنصيص الدستور على إحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية لم يتم إحداثه حتى الآن كذلك، مع العلم أن مهمته تحديد السياسة اللغوية للبلاد، وكيفيات تدبير التنوع الموجود والحفاظ عليه.
وبجانب هذه المفارقات يفاجئنا وزير التربية الوطنية الحالي بوضع برنامج عمل يمتدّ إلى سنة 2030، لا يشير من قريب أو بعيد للأمازيغية التي تدرس منذ 2003، بل إنه صرح بوكالة المغرب للأنباء بأن موقع الأمازيغية في التعليم “غير واضح” بعد عشر سنوات من تدريسها.
أمام هذه المفارقات العجيبة نطرح الأسئلة التالية: ما هي الجهة التي يخول لها تحديد كيفيات ومراحل إدراج اللغة الأمازيغية في التعليم، (القانون التنظيمي المنتظر أم المجلس الوطني للغات أم المجلس الأعلى للتعليم أم أن الأمر متروك لمزاج وزير التربية الوطنية الذي نفض يده من الموضوع وأنكر كل تعهدات الدولة) ؟ وهل هذه الجهة كيفما كانت لها صلاحية القفز على التاريخ وعلى الدستور وكل المكتسبات المتراكمة داخل المؤسسات ؟ وهل توجد تجربة ديمقراطية بدون ترصيد المكتسبات
وهل يمكن التعامل مع اللغة الأمازيغية بعد 2011 خارج وضعية اللغة الرسمية التي تعني كما هو متعارف عليه عالميا لغة المؤسسات ؟ وهل يمكن فهم دستور 2011 وتفسيره وتأويله بذهنية السبعينات والثمانينات، أي خارج المنطق الديمقراطي وحركية التاريخ ودينامية الواقع ومنطق الإنصاف والعدل والمساواة ؟ هل يمكن تكوين أطر للدولة في لغة رسمية تدرس فقط في الابتدائي ؟ ثم وبالواضح : هل يحق لذهنية الميز والعنصرية أن تستمر في السياسات العمومية رغم الدستور ورغم كل المكتسبات الوطنية ؟ ما قيمة نضالنا ، وما جدوى “المصالحة” و”التشارك” و”الحوار الوطني” و”المسؤولية الوطنية” وإعلان النوايا الحسنة ؟
إننا نعتقد بأن للقوى الديمقراطية كلمتها في اللحظات الحرجة من تاريخ بلدنا، وعلى الجميع أن يتحلى باليقظة أمام الصراع الحالي بين النزعات النكوصية وعوامل التغيير والحوافز المستقبلية، حتى نضمن للأجيال القادمة استقرارا دائما مبنيا على العدل والمساواة وجميع قيم المواطنة الحق.