الديمقراطية ومنطق أخف الضررين

الديمقراطية ومنطق 'أخف الضررين'

المغرب اليوم -

الديمقراطية ومنطق أخف الضررين

احمد عصيد

تمرّ التجارب الديمقراطية في بلدان شمال إفريقيا بمحنة حقيقية، فبعد الحراك الشعبي الذي عرفته المنطقة خلال سنة 2011، وما ترتب عنه من أوضاع جديدة كان من أهم عناصرها بروز دور الفاعل الإسلامي داخل مجال السلطة وتدبير الشأن العام، بعد أن كان دوره محصورا في المعارضة، كشفت الأحداث والوقائع المتتالية عن وجود أزمة ثقة كبيرة بين الفرقاء المختلفين، سببه الرئيسي غياب تعاقد واضح مبني على الحسم النهائي في الاختيارات الضامنة  لحقوق الجميع في إطار المساواة التامة ومبدأ المواطنة.

وكان من أكبر أسباب غياب هذا التعاقد الذي ينبغي أن يتجسد في دساتير ما بعد الحراك، استمرار الآليات السلطوية السابقة سواء من خلال المؤسسات أو الدينامية الانتخابية، ورسوخ الاعتقاد لدى الطرف الإسلامي بأن الديمقراطية هي فقط "صناديق الاقتراع"، أي صوت الأغلبية الانتخابية، مفصولا عن القيم والمبادئ الضامنة لاحترام الاختلاف والتدبير السلمي للتعددية، مما جعل هذا الطرف يسعى بشكل ملحوظ إلى استعمال نتائج الانتخابات التي كانت لصالحه من أجل الاستيلاء على الدولة، وفرض توجهه الإيديولوجي بدون مراعاة حقوق الآخرين، الذين يعتبرون في الحقيقة أغلبية فعلية خارج الانتخابات (تمثل نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية المغربي مثلا مقارنة بمجموع السكان الذين لهم حق التصويت 5 في المائة، كما تمثل 26 في المائة فقط من نسبة المشاركين في التصويت).

هذا المفهوم الاختزالي للديمقراطية أدّى بشكل بارز إلى تعميق أزمة الثقة، وإدامة الصراع في الشارع، وإلى عدم استقرار بلدان ما بعد الحراك، فالطريقة التي قام بها "الإخوان" بوضع الدستور في مصر بمفردهم بعد انسحاب الأطراف الأخرى، والأسلوب الذي تعامل به حزب النهضة التونسي مع شغب السلفيين الذي أدى بشكل لم يكن متوقعا إلى اغتيال زعيمين سياسيين، والأدوار التي قام بها الإسلاميون في ليبيا، سواء منهم التيار السلفي الجهادي أو تيار "الإخوان"، والذي أدى إلى جعل إعادة بناء الدولة أمرا مستحيلا، والأسلوب الذي اعتمده حزب العدالة والتنمية المغربي في تدبير الملفات الاجتماعية والاقتصادية، والذي استعمل أساسا القبضة الحديدية واتخاذ القرارات المتسرعة، مع التظاهر بالحوار الاجتماعي وافتعال ثقافة "التشارك"، كل هذه الأمثلة جعلت حراك 2011 وما تلاه لا يفضي حتما إلى الاستقرار، بقدر ما زاد من توتير  الأجواء وأفضى إلى حالات كارثية في بلدان مثل اليمن وسوريا وليبيا، الحالات التي تجنبتها كل من مصر وتونس بأعجوبة، حيث أعطت في مصر عودة العسكر للإمساك بزمام الأمر، وأفضت في تونس إلى دستور توافقي مرحلي لا يضمن بعد استقرارا دائما ونهائيا.  

في هذه الظروف، وبوحي من التجربة المصرية بالذات، وكذلك التجربة التونسية، تبلورت لدى العديد من النخب اليسارية والليبرالية فكرة "ديمقراطية أخفّ الضررين"، وهم الإسم الذي قمتُ بإطلاقه على موقف هذه النخب من عودة الاستبداد السابق، وتفضيل ذلك على حكم الإسلاميين.

إنه مشكل يجعلنا أمام أزمة مزدوجة، أزمة المفهوم الاختزالي للديمقراطية لدى الإسلاميين، الذين لا تهمهم الديمقراطية إلا بوصفها آلية تمكنهم من ولوج دواليب السلطة والتحكم في الرقاب، وأزمة المفهوم البراكماتي الذي يبدي استعدادا للتنازل عن مبادئ الديمقراطية لصالح العسكر أو أي نظام استبدادي آخر، طلبا للنجاة من الحكم الشمولي والتيوقراطي للإسلاميين.

لقد كان تدخل العسكر بعد انتفاضة 30 يونيو 2013 بمصر إجراء نكوصيا ألقى بظلاله على التجربة بكاملها، حيث كان من الممكن إسقاط حكم الإخوان بدون هذا التدخل، بالنظر إلى حجم الانتفاضة التي اندلعت ضدهم، كما كان أمرا مأساويا أن تتسابق نخب ثقافية وسياسية لمباركة عودة العسكر إلى دواليب الحكم، عوض الحفاظ على روح انتفاضة 25 يناير 2011.

كما أن الارتياح الذي اجتاح التيارات اليسارية والليبرالية لسقوط حزب النهضة التونسي في الانتخابات الأخيرة، يخفي موقفا غامضا من عودة أنصار الرئيس بنعلي من النافذة.

لم يكن ثمة من ضحية لهذه الوقائع جميعها سوى الديمقراطية ذاتها، حيث دخل المفهوم من جديد في دائرة الغموض التي كان فيها من قبل، وساهم في ذلك الطرفان المتصارعان معا: الطرف الإسلامي الذي لم ينضج فكريا بعد ليستوعب معنى الديمقراطية، والطرف العلماني الذي لم يعد يهمّه إلا التخلص من الإسلاميين، ولو كان ذلك على حساب المبادئ الديمقراطية.

إن الديمقراطية اختيار مبدئي هدفه إنهاء الأوضاع اللاإنسانية وجعل الاستقرار حالة دائمة على أساس التدبير السلمي للاختلاف والتعددية، وليست اختيارا بين القطران والحنظل، فـ"أخف الضررين" يظل اختيارا خارج الديمقراطية. ومن تمّ فعلى المؤمنين بالديمقراطية أن يظلوا أوفياء لمبادئها أيا كان الطرف الحاكم، والعمل على ترسيخ قيمها في النفوس، لأن الهدف الأسمى ليس هو محاربة هذا الطرف أو ذلك، بل هو ضمان الكرامة للجميع، مما يستوجب أن يؤمن الجميع بجدوى هذا الاختيار الحاسم والمبدئي، وفي غياب هذا الإيمان لدى كل الأطراف، سيكون من الصعب جدا الوصول إلى موقف الحسم التاريخي المطلوب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الديمقراطية ومنطق أخف الضررين الديمقراطية ومنطق أخف الضررين



GMT 18:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مسرح القيامة

GMT 18:15 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان... و«اليوم التالي»

GMT 18:09 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لماذا توثيق «الصحوة» ضرورة وليس ترَفاً!؟

GMT 18:05 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 18:00 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ذكرى شهداء الروضة!

GMT 17:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الشريك المخالف

GMT 17:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 17:49 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

اليوم العالمى للقضاء على العنف ضد المرأة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم
المغرب اليوم - المغرب يفقد 12 مركزاً في تصنيف مؤشر تنمية السياحة والسفر لعام 2024

GMT 02:13 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تمثال لدبين قطبيين يُثير ذهول عملاء مركز تسوق

GMT 07:35 2016 الأحد ,18 كانون الأول / ديسمبر

أفضل مناطق لسياحة التزلج على الجليد في أوروبا

GMT 14:22 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

زلزال بقوة 3.2 درجة تضرب ولاية "مانيبور" الهندية

GMT 19:58 2020 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

أسماك القرش تنهش جثة لاعب كرة قدم في أستراليا

GMT 18:31 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تشابي ألونسو يؤكد جوارديولا سبب رحيلي عن ريال مدريد

GMT 21:58 2019 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

لطيفة رأفت تلهب مواقع التواصل الاجتماعي بمظهر جذاب
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib