احمد عصيد
يعتقد البعض أن خطأ رئيس الحكومة في تصريحه بمجلس المستشارين بما يفيد أن "البيوت انطفأت منذ خرجت النساء إلى العمل، وأن الأولاد تضرروا كثيراً من غياب الأم"، هو مجرد زلة لسان، كما ينسبه البعض إلى طريقة الرجل في المزايدة والسجال وتصفية الحسابات، بل هناك من تحيز له فقط من أجل معاكسة الحركة النسائية والقوى الديمقراطية المطالبة بالمساواة وبتفعيل مضامين الدستور، مثل التنظيم الدعوي لحزب المصباح.
لكن الحقيقة أن ما نطق به رئيس الحكومة يعبر عن فكرة التيار الأصولي وموقفه من جوهر مسلسل التحديث الذي عرفته البلدان الإسلامية منذ قرن كامل، حيث ليست الأصولية إلا صوت الفقيه الذي أقصي من مراكز القرار التي كان ينعم بها في الدولة الدينية التقليدية، والتي كانت تجعل منه عماد الدولة باعتباره العارف بـ"شرع الله" الذي يتم به تسيير الدولة وتدبير شؤون المجتمع، قبل أن تنتقل هذه الوظيفة إلى موظفين مدنيين ذوي تكوين في علوم السياسة والإدارة والقانون والاقتصاد والسوسيولوجيا وغيرها من العلوم الاجتماعية، في إطار الدولة الحديثة التي لم تعد مرجعيتها دينية خالصة، والتي تقترن بمسلسل العلمنة التدريجي الذي تعرفه الدول الإسلامية منذ أزيد من قرن.
ومعلوم أن المرأة التي استفادت من مسلسل التحديث هي الضحية الأولى لأي نكوص فكري أو سياسي، ما دام خروجها من البيت للعمل من أبرز خصائص الدولة الحديثة ومكتسباتها، حيث يتمّ في إطار فكرة المساواة بين الجنسين في حقوق المواطنة. ولهذا يمثل التشكيك في كفاءة المرأة وحقها في العمل والخروج من البيت في سنة 2014، والتباكي على حنان الأم والزوجة وعلى الموائد الدسمة التي كانت المرأة التقليدية تتفرغ لإعدادها أيام نظام القوامة والحريم، يمثل نوعا من الحنين الجارف لدى الرجل الشرقي إلى مرحلة ما قبل الدولة الحديثة، هذه الدولة التي ما فتئت تزعج الأصوليين بمختلف تياراتهم بسبب عدم تلاؤمها مع رؤاهم للمجتمع والدولة، بل وحتى للإنسان، وهي الرؤى التي تتطابق تماما مع الفقه التراثي القديم الذي تعتمده التيارات السلفية والإخوانية في النظر إلى المرأة ودورها، والذي تعتبره جزءا من الدين غير قابل لإعادة النظر أو للتأويل أو التجديد.
فيما يلي نصوص الفقهاء القدامى ومقلديهم من المحدثين، الذين ينهل بنكيران ومن معه من معين علمهم، الذي إن كان لا شك يلبي حاجات مجتمع قديم فإنه اليوم لم يعد يستطيع مواكبة تطورات المجتمع المعاصر وتحولاته.
نورد هذه النصوص ونحن نعتذر للقراء عن إضاعة وقتهم في قراءة مواقف وآراء وتفاسير وتأويلات لا تنفع، ولم يعد لها علاقة بواقع الناس البتة، لولا أنّ لها بقية أصداء في عقول البعض منا.
أقام الفقه الإسلامي موقفه من خروج المرأة على الآية القرآنية: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾[الأحزاب:33]. وهي آية تتعلق بنساء النبي، إلا أن المفسرين والفقهاء اعتبروها تخص جميع النساء، يؤكد ذلك ما قاله القرطبي في تفسير الآية ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ قال: "معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة".
وقال الألوسي في «روح المعاني» مفسرا: "والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي الله عنهن بملازمة البيوت، وهو أمر مطلوب من سائر النساء".
وقال ابن كثير في تفسيره للآية: "هذه آداب أمر الله بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الأمة تبّع لهن في ذلك. "
وحتى يؤكد الفقهاء بأن الأمر يخصّ جميع النساء وليس نساء النبي وحدهن، استعانوا بآيات أخرى مثل: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ" (سورة النساء). وعلى هذه الآية أقاموا تقسيمهم للعمل بين الرجل والمرأة، فللمرأة أشغال المنزل وللرجل الخروج لـ"طلب الرزق". وهو ما يؤكده ابن قيم الجوزية حين جعل للمرأة العمل المنزلي وللرجل العمل خارج البيت، واعتمد في ذلك الواقعة التالية:
"قال ابن حبيب في الواضحة : حكم النبي صلى الله عليه وسلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين زوجته فاطمة رضي الله عنها حين اشتكيا إليه الخدمة فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة خدمة البيت وحكم على علي بالخدمة الظاهرة ثم قال ابن حبيب : والخدمة الباطنة : العجين والطبخ والفرش وكنس البيت واستقاء الماء وعمل البيت كله".
ويضيف في "زاد المعاد"حتى يؤكد ما ذهب إليه ويجد له شرعية الحديث: "وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المرأة "عانية" فقال (اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم) والعاني : الأسير، ومرتبة الأسير خدمة من هو تحت يده. ولا ريب أن النكاح نوع من الرق كما قال بعض السلف : النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته". فالنكاح بهذا المعنى الذي أراده ابن قيم أي الزواج هو نوع من الرق والعبودية، والمرأة "عانية" أي أسيرة لدى زوجها.
كما استعان الفقهاء بأحاديث منها حديث رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي والذي يقول: «المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان»، ومعنى استشرفها أي "أمعن النظر إليها ليغويها بغيرها ويغوي غيرها بها ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة". وقال المناوي في شرح معنى أن المرأة "عورة" :"أي هي موصوفة بهذه الصفة، ومَن هذه صفته فحقه أن يُستر، والمعنى أنه يستقبح بروزها وظهورها للرجال، والعورة سوأة الإنسان وكل ما يستحيى منه، كنى بها عن وجوب الاستتار في حقها". وهذا ما يفسر أن النساء وسيلة الشيطان وأداته في إغواء الرجال، يقول المناوي في "فيض القدير"": النساء أعظم حبائل الشيطان وأوثق مصائده فإذا خرجن نصبهن شبكة يصيد بها الرجال فيغريهم ليوقعهم في الزنا، فأمرن بعدم الخروج حسماً لمادة إغوائه وإفساده". فالسبب الرئيسي إذا حسب الفقهاء لأمر النساء بلزوم بيوتهن هو كونهن مصدر الغواية والفواحش.
ويؤكد الفقهاء على هذا التلازم بين المرأة والشيطان باستعمال الحديث التالي:" لا يخلوَنّ رجل بامرأة ، فإن الشيطان ثالثهما" (رواه الترمذي في سننه)، وهو حديث استعمل بطريقة تجعل تواجد امرأة مع رجل أمرا يربط آليا بالممارسة الجنسية، وباستحالة أن يكون لهدف آخر. وقد وجد الفقهاء ترسانة كاملة من الأحاديث استعملوها لتأكيد موقفهم ومنها "ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء" وكذلك الحديث القائل: "اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" إلخ..
وقد اعتُمد في تأكيد فكرة ضرورة لزوم المرأة بيتها وعدم الخروج إلا في حالات نادرة الحديث التالي، الذي أخرجه البزار عن أنس قال: "جاءت نساء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلن: ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى، فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قعدت منكن في بيتها، فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى".
كما يتم اعتماد ما أورده ابن كثير في «البداية والنهاية» عن واقعة جرت بين عائشة زوجة النبي والصحابي زيد بن صوحان أيام خروجها لقتال علي بن أبي طالب، حيث طالبت زيد المذكور بالانضمام إليها أو البقاء في بيته والتزام الحياد بينها وبين علي، فرفض زيد أن يطيعها وكان جوابه على الشكل التالي: "رحم الله أم المؤمنين، أمرها الله أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فخرجت من منزلها وأمرتنا بلزوم بيوتنا".
وقد تشدّد الفقهاء في أمر خروج المرأة إلى درجة الهوس أحيانا كما نجد في رأي بن تيمية الذي اعتبر المرأة " أولى من الصبي في الوصاية"، حيث أفتى للرجل الذي يخاف أن تخرج امرأته من غير إذنه قائلا: "إن خاف الزوج خروج زوجته بلا إذنه، أسكنها حيث لا يمكنها الخروج . فإن لم يكن له من يحفظها غير نفسه حبست معه، فإن عجز أو خيف حدوث شر أسكنت في رباط ونحوه، ولأن خروجها مظنة للفاحشة صار حقا لله، ويجب على ولي الأمر رعايته".
هكذا بالتدريج تمّ إحكام قبضة الحريم على المرأة المسلمة وعزلها عن دينامية المجتمع وحركية الواقع قرونا طويلة.
وإذا كان فقه الحريم قد منع النساء من العمل خارج البيت بجانب الرجال فقد ابتكر وسائل للحيلولة دون أي لقاء لهن بعالم الناس، واعتمد في ذلك حديث يخاطب الرجال بالقول: "إياكم والدخول على النساء".
ولكن كيف حلّ الفقه الإسلامي مشكلة لزوم المرأة للبيت إذا كانت لها "حاجات" تقضيها خارج البيت ؟
اعتبر الفقهاء أن بقاء المرأة في البيت أفضل لها من الخروج، إلا إن كانت لها حاجة ضرورية تقضيها واعتمدوا في ذلك الحديث : (أذن لكن بالخروج لحاجتكن) .
كما اعتمدوا أخبار بعض النساء اللواتي مكثن في بيوتهن إلى أن توفين مثل الخبر الذي أورده الجصاص والقرطبي وغيرهما في تفسير الآية (33) من سورة الأحزاب: "أن أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها قيل لها: لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: "قد حججت واعتمرت". فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أُخرجت جنازتها".
وقال أبو بكر بن العربي في هذا الشأن: "ما رأيت أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس، فإني أقمت فيها أشهرا فما رأيت امرأة في طريقي نهارا". إلى أن قال:"رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه". أي أن هذا الفقيه معجب بنساء لم يخرجن أبدا من بيوتهن إلى أن أدركتهن الموت .
يذكر الفقهاء مثل هذه الروايات بتعظيم وإجلال ويقدمونها على أنها نموذج ينبغي أن يُقتدى به من طرف المرأة المسلمة، فتفضل المكوث في البيت على الخروج ولو لحاجات دينية كالحجّ والعمرة والصلاة في المسجد. فرغم أن الصلاة في المسجد من الحاجات الشرعية، فقد اعتمد في صلاة المرأة الحديث التالي : «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات»، ولكن سرعان ما يتدارك الفقهاء بالقول "وفي رواية: «وبيوتهن خير لهن»، ولهذا اعتبروا أن الخروج للصلاة في المسجد ليس واجبا على المرأة لأن الصلاة في بيتها أفضل لها، واعتمدوا في ذلك حديث طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عن النَّبِيِّ أنه قَالَ: "الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ، إِلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوْ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ".
وهكذا اجتمعت المرأة في هذا الحكم مع العبد المملوك والصبي الصغير القاصر والإنسان المريض.
ويؤكد هذا التوجه لدى الفقهاء ما ذهب إليه ابن تيمية من أفضلية صلاة المرأة في بيتها عوض المسجد حيث قال مستشهدا بالحديث التالي :"عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنهما : أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله أني أحب الصلاة معك . قال : قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في بيتك وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي ، قال : فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه ، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل" .
أي أن هذه المرأة التي كانت تحبّ الصلاة مع النبي في مسجده، بني لها مسجد في مكان معزول ومظلم داخل بيتها ولازمته إلى أن أدركتها الوفاة، واعتبر أن ذلك "أفضل لها" من الصلاة في مسجد مع الناس.
يعني هذا أنّ الفقهاء لم يحرموا على المرأة الخروج للصلاة في المسجد، لكنهم قاموا بما يلزم من تعسير لثنيها عن ذلك.
كما تشدّد الفقهاء في تحديد "الحاجات" المقصودة بخروج المرأة وتفننوا في ضبطها وتقليصها إلى أبعد حدّ، وربطوا خروج المرأة لقضاء تلك الحاجات بـ"شروط". يقول ابن تيمية:"لا يجوز للمرأة الخروج من بيتها إلا إذا دعت الحاجة الماسة إليها بشروط: منها أن تكون في الطريق وفي المحل الذي تعمل فيه مأمونة على عرضها، وأن لا يكون هناك اختلاط بالرجال، ولا بد لها إن دعت الحاجة إلى الخروج أن تطلب الإذن من زوجها، وإلا اعتبرت ناشزة عاصية لله ورسوله تستحق من زوجها التأديب".
فأما الحاجات المحتملة لخروج المرأة فهي لا تتعدّى ما يلي: "زيارة قريب أو عيادة مريض أو صلة رحم أو تعزية الأموات من الأقارب أو شراء حاجة من السوق"... "وأما إذا لم يكن لها ضرورة ولا حاجة فلا يجوز لها الخروج بل يحرم عليها".
وأما شروط الخروج لقضاء تلك الحاجات وقد سماها البعض "ضوابط شرعية" فهي :
ـ الشرط الأول ألا يكون قضاء تلك الحاجة ممكنا من طرف الزوج أو الأخ أو قريب من الأقرباء "المحارم"، فإن أمكن ذلك فـ"الأولى بها ألا تخرج".
ـ الشرط الثاني أن يكون الخروج بإذن زوجها أو وليها ولا يجوز لها الخروج بغير إذنه. فتقدير الحق في الخروج من عدمه متروك لمزاج الرجل. ويستعمل في هذا الحديث التالي :" حقه عليها (أي على الزوج) ألا تخرج من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء وملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى تتوب ".
ـ الشرط الثالث أن تلتزم بما سماه الفقهاء "الحجاب الشرعي"، واعتمدت فيه الآية : "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" (الأحزاب:59). وفي تفسير الآية ، يروي ابن جرير الطبري عن ابن عباس قوله : " أمر نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق الجلابيب ، ويبدين عيناً واحدة ".
الشرط الرابع أن تخرج متسترة مختفية وألا تظهر متزينة أو متطيبة وأن تتجنب كلما يجعلها بارزة ظاهرة باللباس أو رفع الصوت أو غيره واستعمل في ذلك حديث "وليخرجن تفلات" ومعنى "تفلات" في الحديث أي "غير متزينات ولا متطيبات"، ويشرح العيني ذلك شرحا يجعل المرأة الخارجة هباء وشبحا لا شخصية لها ولا وجود، حيث يقول: " يجوز الخروج لما تحتاج إليه المرأة من أمورها الجائزة بشرط أن تكون بَذَّةَ الْهَيْئَةِ ، خَشِنَةَ الْمَلْبَسِ ، تَفِلَةَ الرِّيحِ ، مَسْتُورَةَ الْأَعْضَاءِ، غير متبرجة بزينة أو رافعة صوتها". ويستعمل العيني عبارة "بذة الهيئة" التي يعني بها في حالة سيئة رثة (بذّ الشخص أي ساءت حاله ورثت هيئته). إنه العدم التام، بينما للرجل عند الفقهاء حق الظهور بزينته كاملة حيث يجوز له استعمال كل أنواع الطيوب التي لديه، وأن يتزين ويتأنق كما يريد، دون أن يعتبر ذلك جالبا للنساء أو مدعاة للغواية وارتكاب الفاحشة.
و لابن قيم الجوزية رأي في ذلك أكثر قساوة إذ يدعو الحكام وأولي الأمر إلى معاقبة المرأة وحبسها إذا هي لم تلتزم بهذا الانمحاء أمام الرجال، يقول: "يجب على ولي الأمر منع النساء من الخروج متزينات متجملات ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منـزلها ولاسيما إذا خرجت متجملة بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية والله سائل ولي الأمر في ذلك" .
ـ الشرط الخامس ألا ينجم عن خروجها اختلاط بالرجال أو إخلال بواجبات ومهام البيت ورعاية الزوج والأبناء. وقد خلق هذا الشرط اضطرابا لدى فقهاء اليوم حيث وقعوا في الحيرة كيف يسمحون للمرأة العصرية بالخروج للعمل الذي يؤدي إلى الاختلاط بالرجال، ويعكس هذا الارتباك وجود رأيين مختلفين لفقيهين وهابيين من نفس المعسكر عاشا معا أحداث القرن العشرين، أولهما عبد العزيز بن باز الذي يقول بدون تحفظ : "الدعوة إلى نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال المؤدي إلى الاختلاط سواء كان ذلك على جهة التصريح أو التلويح بحجة أن ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة أمر خطير جدا له تبعاته الخطيرة، وثمراته المرة، وعواقبه الوخيمة، علاوة على مصادمته للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه."
وثانيهما موقف محمد بن صالح العثيمين الذي يشعر المستمع إليه بمقدار الورطة التي جعلت فيها المرأة العصرية فقهاء اليوم حيث يقول:"فلتخرجي أيتها المرأة من بيتك للعمل في المدرسة وكذلك في الأعمال الأخرى إذا احتجت إلى الخروج شرط ألا يكون في ذلك اختلاط ولا تبرج ولا تطيب" معنى هذه الفتوى المضطربة أن لا خروج، لأن من ضروب المستحيلات الحديث في مجتمع اليوم عن خروج المرأة للعمل مع "عدم الاختلاط بالرجال".
لا نقصد بمقالنا هذا عدم وجود فقهاء متنورين كان لهم فضل الإسهام في تحرير المرأة من عقال الحريم، لكننا ركزنا على الفقه التراثي القديم الذي استلهمه بنكيران وهو يتأسف على خروج المرأة من البيت للعمل والإسهام في تطور المجتمع، لكي يعرف القراء حقيقة أهداف المتطرفين الدينيين وإن تظاهروا بالمشاركة في الحياة السياسية مع غيرهم من الفرقاء الآخرين وبشعرات الديمقراطية والتحديث والمساواة.
وفيما يلي مقتطفات من وثيقة هامة أصدرها علماء الأزهر مع نخبة من المثقفين حول دور المرأة ومكانتها في المجتمع، وتحمل الوثيقة إسم "وثيقة كبار العلماء لحقوق المرأة":
"المادة الخامسة:
إن الواقع المعاصر في متطلباته الاقتصادية أو نتيجة للتعليم قد فرض على النساء العمل إلى جانب القيام بتبعات وظيفتهن الإنسانية والطبيعية في حفظ النوع. والعمل نهج شريف لتحصيل الرزق، لا يرفضه الدين بما يتناسب مع ظروف الزوجين وأبنائهما(...)
" عمل المرأة بهذا المعنى يرتب على أولى الأمر مجموعة من الالتزامات: أولها أن يقوم على قاعدة تكافؤ الفرص والعدالة"(...)
"ولذلك ينبغي تيسير قواعد العمل بالنسبة للنساء العاملات، وتحقيق التوافق الأسري على التعاون والتضافر في حمل الأعباء المادية وغير المادية كرعاية الأبناء والآباء".
المادة السابعة:
"للمرأة الحق في تولى الوظائف العامة متي اكتسبت المؤهلات، التي تقتضيها تلك الوظائف، وعلى الدولة أن تحافظ على تكافؤ الفرص إزاء المرأة والرجل".
ولا يخفى على عاقل أن من جعل الفقهاء ينظرون هذه النظرة المتوازنة إلى دور المرأة العصرية ليس أريحيتهم ولا كرمهم وهم الذين تربوا في أحضان التراث الفقهي، بل نضال المرأة وما حققته بتضحياتها من مكتسبات، أرغمت الفقهاء على التنازل عن مروياتهم ومحفوظاتهم من الأحاديث وأقوال المشايخ ليقبلوا الواقع، وإذا كان بنكيران يحنّ إلى زمن الحريم فإن المرأة المغربية كفيلة بأن تجعله يتذكر واقعه ويتنازل عن حلمه الذي يعدّ إهانة لتضحيات المرأة في كل المجالات.
قد نلتمس عذرا للفقهاء القدامى على مواقفهم التي تبدو لنا اليوم بعيدة كل البعد عن حياتنا اليومية ونمط وجودنا الاجتماعي، لكن ماذا نقول في فقهاء اليوم الذين عاشوا ثورة تحرير النساء ورأوها بأم أعينهم وهي تقتحم كل المجالات وبكفاءة كبيرة، أبرزها أن نتائج الباكالوريا لهذه السنة أظهرت أن التفوق الكبير هو للتلميذات على الذكور، بل إن أعلى معدل وهو 19,35 من نصيب تلميذة، هل يطالب بنكيران هذه الأجيال الذكية المتفوقة من الفتيات بأن تتحولن إلى "مصابيح" للبيوت المظلمة، وتتركن مكانهن للكسالى من الذكور العابثين ؟
طرائف:
ومن الطرائف التي قد تثلج صدر رئيس حكومتنا السيد بنكيران ما ذكره عبد العزيز بن باز من أن بيولوجيا المرأة مخالفة لمتطلبات الخروج من البيت (كذا !!؟)، وكذا عدم أهليتها لتولي المناصب وكونها سبب البطالة وأنها سبب سقوط الحضارات المزدهرة قديما، حيث يجد القارئ تجسيدا واضحا لفكرة السيد بنيكران في الفقرات الموالية :
خروج المرأة منافي لطبيعتها البيولوجية:
"ومعلوم أن الله تبارك وتعالى جعل للمرأة تركيبا خاصا يختلف تماما عن تركيب الرجال هيأها به للقيام بالأعمال التي في داخل بيتها والأعمال التي بين بنات جنسه.
ومعنى هذا: أن اقتحام المرأة لميدان الرجال الخاص بهم يعتبر إخراجا لها عن تركيبها وطبيعتها، وفي هذا جناية كبيرة على المرأة وقضاء على معنوياتها وتحطيم لشخصيتها، ويتعدى ذلك إلى أولاد الجيل من ذكور وإناث؛ لأنهم يفقدون التربية والحنان والعطف، فالذي يقوم بهذا الدور هو الأم قد فصلت منه وعزلت تماما عن مملكتها التي لا يمكن أن تجد الراحة والاستقرار والطمأنينة إلا فيها ".
سبب سقوط الحضارات:
"المعروف تاريخيا عن الحضارات القديمة: الرومانية واليونانية ونحوهما أن من أعظم أسباب الانحطاط والانهيار الواقع بها هو خروج المرأة من ميدانها الخاص إلى ميدان الرجال ومزاحمتهم مما أدى إلى فساد أخلاق الرجال".
عمل المرأة سبب البطالة:
"وانشغال المرأة خارج البيت يؤدي إلى بطالة الرجل".
ممنوعة من تولي المناصب:
"وقد حرص الإسلام أن يبعد المرأة عن جميع ما يخالف طبيعتها فمنعها من تولي الولاية العامة كرئاسة الدولة والقضاء وجميع ما فيه مسئوليات عامة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري في صحيحه".
غض البصر:
"أمر الله المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها، وأمرهن الله بإسدال الخمار على الجيوب المتضمن ستر رأسها ووجهها؛ لأن الجيب محل الرأس والوجه، فكيف يحصل غض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة عند نزول المرأة ميدان الرجال واختلاطها معهم في الأعمال؟ والاختلاط كفيل بالوقوع في هذه المحاذير، كيف يحصل للمرأة المسلمة أن تغض بصرها وهي تسير مع الرجل الأجنبي جنباً إلى جنب بحجة أنها تشاركه في الأعمال أو تساويه في جميع ما يقوم به ؟".
البيت "حجاب" "وخير حجاب المرأة بعد حجاب وجهها باللباس هو بيتها".
فتوى الإمام ناصر الدين الألباني في النساء المحدثات والمرشدات:
"وأما ما شاع هنا في دمشق في الآونة الأخيرة من ارتياد النساء للمساجد في أوقات معينة ليسمعن دروسًا من إحداهن ممن يسمون بالداعيات زعمن، فذلك من الأمور المحدثة التي لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه و سلم ، ولا في عهد السلف الصالح، وإنما المعهود أن يتولى تعليمهن العلماء الصالحون في مكان خاص، كما في الحديث، أو في درس الرجال حجرة عنهم في المسجد إذ أمكن.
وكل خير في اتباع من سلف* * * وكل شر في ابتداع من خلف.
وقد وصل الأمر ببعض النساء هنا وربما في بلاد أخرى أنها تصعد المنبر في المسجد وتلقي الدروس على النساء، وقد يكون هناك في باحة المسجد رجال فاتتهم الصلاة مع الجماعة فيدخلون يصلون، هذا -بلا شك- لا أتورع أن أقول: إن هذه من البدع، فالأمر -كما ذكرت في سؤالك- أن واجب المرأة أن تقر في بيتها، فإذا كانت مميزة على غيرها بالعلم بشرع الله عز وجل فذلك لا يؤهلها أن تنطلق هكذا كالرجال، وتساويهم في الخروج، كأنَّ ربنا عز وجل ما قال في كتابه الكريم( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) الأحزاب:33".
معنى هذا أن المرأة وإن برز تفوقها في العلوم وضلوعها في المعارف الفقهية والشرعية فإن ذلك لا يجعلها مؤهلة لأن تتصدر المجالس و تحدث الناس لأن ذلك عمل من اختصاص الرجال وحدهم.
من حسن حظ المسلمين أنهم لا يسمعون دائما لكلام المشايخ والدعاة.