احمد عصيد
اكتسح حزب الشعب الهندوسى الراديكالي (بهاراتيا جاناتا) الانتخابات البرلمانية الهندية، حيث حصل على الأغلبية في البرلمان (280 عضوا من 543)، وبهذه الأغلبية فقد أصبح بمقدور حزب الشعب أن يشكل حكومة بدون حاجة إلى التحالف مع غيره من الأحزاب.
ويعرف حزب الشعب بكراهيته للمسلمين والمسيحيين وقمعهم، حيث يعتبرهم أجانب ويعتبر الهند دولة هندوسية، مما جعل فوزه الساحق يثير في أوساط المسلمين تخوفات كثيرة، إذ رغم أن عدد المسلمين في الهند يفوق 180 مليون نسمة، إلا أنهم يظلون في حكم الأقلية الصغيرة وسط مليار من الهنود.
ما أثار انتباهي هو التصريح الذي أدلى به أحد مشايخ المسلمين عبر قناة فرنسا 24، وهو التصريح الذي يطالب فيه الهند باحترام علمانيتها وعدم الوقوع فريسة التطرف الراديكالي لحزب الشعب، منبها هذا الحزب إلى أنه في حالة اضطهاد المسلمين فسيكون ذلك خيانة لمبدأ العلمانية المعتمد في الهند. وهكذا في الوقت الذي يقوم فيه الكثير من المسلمين في العديد من البلدان بـ "محاربة العلمانية" يعتبرها مسلمو الهند منقذهم من الاضطهاد، ولعل قراءة هذه الواقعة ستكون عبرة لأولي الألباب.
ففي البلدان التي يشكل فيها المسلمون أغلبية الشعب يشيعون فيما بينهم أنّ العلمانية معادية للدين، وأن الإسلام دين ودولة لا ينفصلان، وأن الفصل بينهما ليس من "تقاليدنا العريقة"، ولهذا يسعون إلى فرض عقيدتهم وطقوسهم وثقافتهم الدينية على جميع الأقليات الأخرى، ويطالبون هذه الأقليات بالانمحاء في الفضاء العام وعدم الظهور لأنها "تستفز مشاعرهم"، أما في البلدان التي يعدّ فيها المسلمون أقلية فيستنجدون بالعلمانية لكي تحميهم من الأغلبية، ماذا يعني ذلك ؟ يعني ببساطة أن المسلمين يريدون العلمانية عندما يحتاجون إليها لحماية أنفسهم من الظلم، ويرفضونها عندما تكون مطلبا لحماية غيرهم من الأقليات الأخرى.
والدرس الذي ينبغي أن يتعلموه عبر تغيير ذهنيتهم هي أن العلمانية هي النظام الذي يحمي جميع الديانات وتستطيع أن تتعايش في ظله بكل أمان، لأنه في غياب العلمانية يصبح دين الأغلبية سيفا مسلطا على رقاب الناس، وأداة قمع وترهيب، وتاريخ الإسلام والمسيحية واليهودية والهندوسية دليل قاطع على ذلك، فقد استعملت هذه الديانات كلها من طرف معتنقيها في فترات من تاريخها الطويل لاضطهاد الأقليات الأخرى وسحقها وإرغامها على الخضوع لقوانين لا تؤمن بها، مما يحتاج معه الجميع إلى قوانين محايدة تنصف الجميع، وتلك هي العلمانية، حياد المؤسسات تجاه الدين واعتبار هذا الأخير أمرا شخصيا، واعتماد منطق المساواة في إطار المواطنة بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العقيدة أو اللغة أو النسب والأصل العرقي.
صرخة الاستنجاد الصادرة من مسلمي الهند هي نفس الصرخة التي يطلقها مسلمو فرنسا عندما يطالبون الدولة الفرنسية باحترام علمانيتها التي تم إرساؤها سنة 1905، وعدم منع الحجاب على النساء والفتيات داخل المؤسسات، بينما لا أحد يحمي نساء غزة وفتياتها من غلو ميليشيات "حماس" التي تفرض الحجاب بكل الطرق الظاهرة والمستترة، والتي قد تصل أحيانا إلى درجة العنف المادي المباشر في الشارع العام، دون الحديث عن التهديد والوعيد اليومي.
إذا كان الأساس الذي ينطلق منه مسلمو فرنسا والهند لانتقاد السلطة هو العلمانية التي تقر بحرية اللباس فما هو الأساس الذي يمكنهم الانطلاق منه لانتقاد حماس وإيران والسعودية والسودان، التي تفرض الحجاب قهرا وتعاقب بأشد العقوبات النساء المخالفات للزيّ المفروض رسميا ؟ ولماذا يطالب المسلمون بحرية اللباس لأنفسهم في البلدان العلمانية بينما لا يطالبون بهذه الحرية في بلدانهم حيث تسود كل أنواع الاضطهاد باسم الدين ؟
ليس هذا هو الدرس الوحيد الذي على مسلمينا تعلمه من مسلمي الهند، بل هناك درس آخر عميق وهو أن صرخة أئمة الهند المطالبين باحترام علمانية الدولة أنها ستنبه جماعات الإسلاميين إلى الخطأ الذي يرتكبونه عندما يختزلون الديمقراطية في صناديق الاقتراع وحدها وصوت الأغلبية العددية، ويعتبرون أن من حصل على الأغلبية سيكون من حقه أن يفعل ما يريد بالناس، ويطبق سياسته كما يشاء، رغم ما قد يكون فيها من غلو واعتداء على الغير، فإذا كان الأمر كذلك فليس عليهم إلا قبول مصير المسلمين في الهند، وقبولها كذلك في أوروبا عندما ستكتسح الأحزاب اليمينية الراديكالية والفاشستية صناديق الاقتراع، وهذا مستقبل ليس ببعيد.
ملحوظة جانبية:
اضطهاد المسلمين في الهند من طرف الهندوس لا يعود فقط إلى عنصرية الأغلبية الهندوسية بل إلى عامل آخر يتم إغفاله أو تجاهله وهو إصرار المسلمين على السخرية من عادات الهنود وتقاليدهم وديانتهم واعتبارها خرافية، واعتبار دينهم الإسلام وحده الصحيح، وهذا يعلمنا درسا آخر هو ضرورة احترام الديانات والمساواة بينها في قيمتها الإنسانية.