بقلم - مصطفى فحص
قليلة هي المدن التي تتحول شوارعها إلى فهرس لتاريخها؛ لكن شوارع بغداد وأرصفتها وأبنيتها ومحالها لم تزل رغم مآسيها ترشد زوارها إلى ما تبقى من تاريخ المدينة في عصورها الذهبية. فعاصمة الحضارة العربية الإسلامية التي تمثل للعلماء والمؤرخين ما يمكن اعتباره أول تجربة للعولمة إبان العصر العباسي، لم يبق منها غير بعض الأبنية والأرصفة، تدلك على ما تيسر من ذلك التاريخ بعد سنين من التشوهات، نتيجة سقوطها المتكرر بيد العسكر ثم البعث، حتى الغزو الذي تحول إلى غزوين: الأول معلن، والثاني لم يعد مبطناً.
ولكي تتعرف على بغداد الحالية التي انتقلت من مرحلة سقوط صدام إلى مرحلة سقوط الإسلام السياسي الذي حكمها بفشل موصوف أكثر من عشر سنوات، عليك أن تتنقل صباح يوم الجمعة سيراً على الأقدام من جهة الكرخ، عند محلة الشورجة، إلى جهة الرصافة، أيقونة العصرين العباسي والعثماني، عبر جسر الشهداء المعروف سابقاً بجسر المأمون، فيلاقيك نصب معروف الرصافي بداية شارع الرشيد، الذي يتفرع منه شارع المتنبي، حيث تتحول أرصفته صباح كل يوم جمعة إلى مكتبات لبيع الكتب، ويزدحم الشارع برواده من مثقفين وسياسيين وكتاب وصحافيين وطلاب ومواطنين، من مشارب وطبقات مختلفة، اعتادوا على زيارة الشارع في عطلة نهاية الأسبوع، إما لشرب الشاي في مقهى الشابندر، أو للمشاركة في النشاطات التي تجري في ساحة القشلة، وهي ضمن مباني المتحف البغدادي نهاية شارع المتنبي، حيث تمثاله الذي يطل على نهر دجلة. وأما المشي بين أزقة الكرخ والرصافة التاريخية، تلك التي أثرت مخيلة الأدباء والفنانين والمستشرقين عن كنوز بغداد الأدبية والسياسية، من دار الحكمة إلى أبي نواس، وشهريار، ومظفر، والجواهري، ومحمد مكية، وأسعد عبد الرازق، ويوسف العاني، وكمال الجادرجي، ونوري السعيد، وألف ليلة وليلة، فسوف يتحول سريعاً إلى صدمة، وكأنك أمام ألف حسرة وحسرة على مدينة تَعَمّد من يملك أمرها إهمالها، إما لجهله بها أو لعُقدة من تاريخها، وكأن بغداد ليست عاصمة لدولة تنتج أكثر من 4.1 مليون برميل من النفط، أدخلت ما بين 2004 و2014 نحو ألف مليار دولار إلى خزينة الدولة، ضاع منها نحو 600 مليار في أكبر عملية فساد شهدها تاريخ العراق والمنطقة، نفذتها أحزاب الإسلام السياسي الشيعية والسنية، التي رفع المواطن العراقي البسيط بوجهها شعاره «باسم الدين باكونا (سرقونا) الحرمية» والذي سيؤثر كثيراً في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
في ساحة القشلة أو «هايد بارك بغداد»، يمكن للزائر ملاحظة تحولات المجتمع المدني العراقي البغدادي. ففي إحدى زوايا الساحة نُصبت خيمة لـ«الحشد الشعبي»، وعلقت صور لقادة «الحشد» وبعض من سقطوا في الحرب ضد «داعش»، واعتلى منبرهم رجل دين يشي زيه الديني بأنه من أهل السنة والجماعة، وكان يتحدث عن أخلاقيات المسلم، ولم يتجاوز عدد المستمعين إليه أكثر من 50 مواطناً، بينما في الزاوية المقابلة كان هناك حفل غنائي لمجموعة من المطربين الشعبيين العراقيين، وقد اجتمع من حولهم أغلب زوار الساحة الذين تجاوز عددهم المئات، حيث استمر الغناء والطرب لساعات، ففي زاويتَي القشلة مشهد مستَقل يعبر عن المزاج العراقي المتأثر بالتطورات الاجتماعية والثقافية التي تشهدها العاصمة، والتي لا يمكن فصلها عن الحراك السياسي الذي يشهده العراق قبل 6 أشهر من الانتخابات النيابية، حيث يصبح من المُلِح جداً على التيارات السياسية الجديدة التي إما انشقت عن الأحزاب الإسلامية كـ«تيار الحكمة الوطني»، وإما قامت بخطوات ابتعدت فيها عن شعارات المرحلة السابقة كالتيار الصدري، الانتباه إلى المزاج الشعبي المعترض على نتائج تجربة ما بعد 2003.
إلا أن السيدين عمار الحكيم، ومقتدى الصدر، لا يمكنهما التعامل مع هذه المتحولات كأنها مرحلية يمكن احتواؤها أو استقطابها بسهولة، فعلاقة الصدريين المتطورة مع التيارات المدنية واليسارية التي تشكلت في اعتصامات ساحة التحرير، وحراك السيد عمار الجديد الذي أسس له في خطابه يوم السبت الماضي في المؤتمر التأسيسي لـ«تيار الحكمة»، يحتاجان لخطوات شجاعة تتخطى فكرة التعاطي مع التيارات المدنية كأرقام انتخابية محدودة التأثير، بينما هي فعلياً قوة معنوية يمكن أن يكون لها تأثير على صناديق الاقتراع في الانتخابات المقبلة؛ خاصة بعد انفتاح المرجعية في النجف عليها، وإزالة كل الحساسيات؛ خصوصاً مع الشيوعيين الذين كان بعضهم رأس حربة في معركة مكافحة الفساد.
أمام رئيس الوزراء حيدر العبادي والسيدين الحكيم والصدر فرصة للتوافق مع مدينة عراقية عنوانها بغداد، التي ينتمي إليها العبادي، والتي أثرت على السيدين وجعلتهما يوائمان بين مكوناتهما النجفية والضروريات البغدادية، في التأسيس لشراكة جديدة مع بيئات مختلفة عن مكوناتهم الفكرية والعقائدية والحزبية؛ لكنها ضرورية لحظة إعادة التأسيس للهوية الوطنية العراقية.