بقلم - مصطفى فحص
في قطيعة شبه كاملة مع الماضي القريب والبعيد، غيَّر جيل جديد من اللبنانيين أدوات المواجهة مع السلطة، ونقلوها من أزمة حكم أو صراع على السلطة إلى أزمة نظام. أزمة لم تكن تتوقعها أحزاب السلطة، التي صُدمت بانتفاضة شعبية أقرب إلى ثورة وطنية كبرى، لم تكن بحسبان أحد أو طرف، نظراً لتركيبة المجتمع اللبناني وتجذر طائفيته. إلا أن ثورة 17 يناير (تشرين الأول) غيّرت، وبسرعة، القراءة التقليدية للإجماع اللبناني، المبنية منذ عشرات السنين على اعتبارات نمطية تعامل معها الداخل والخارج على أنها ثوابت لا يمكن تجاوزها في معالجة المسألة اللبنانية؛ خصوصاً أنها - هذه المسألة - كانت جزءاً من المسألة الشرقية، التي لعب دعاتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر دوراً محورياً في التوزيع الديمغرافي والجغرافي للمنطقة، الذي ساهم في تشكيل جمهوريات ما بعد الموروث العثماني، التي مهدت لإنشاء دولة لبنان الكبير سنة 1920. ولكن بعد إجراء تعديل على القاعدة الديمغرافية الطائفية للكيان اللبناني الأول سنة 1861، أو ما عرف حينها بالصيغة الأولى المارونية الدرزية، التي انتقلت بعد الاستقلال 1943 (الجمهورية الأولى) إلى مارونية سنية؛ حيث يمكن تسميتها بالصيغة الثانية التي شهدت بعض التعديلات الدستورية في «اتفاق الطائف» الذي أنهى الحرب سنة 1989، وعرفت بـ«وثيقة الوفاق الوطني اللبناني»، وهي مستمرة إلى الآن، رغم تعرضها للضغط من جهات طائفية ترى أن التزامها دستورياً بالصيغة اللبنانية لم يعد يتناسب مع حجمها ودورها، وكانت تعمل على تهيئة الأرضية الداخلية والخارجية للمطالبة بتعديلها؛ خصوصاً أنها تريد استثمار مرحلة صعودها الاستثنائية، وباعتبار أنها تمتلك قدرات تسمح لها بتعديل الصيغة والدستور، بما يتناسب مع قوتها، ولم تتردد في فرض قوانين تناسب مصلحتها حتى لو كانت تقيد عمل المؤسسات الرسمية عبر أدوات ما دون الدولة، نتيجة استسلام كامل من قبل أغلب الأطراف التي تشاركها في السلطة. لذلك اتخذت موقفاً سريعاً ومتسرعاً من الحراك، الذي لم يُضيع الوقت في التحشيد من أجل فرض شروطه عبر الشارع، وفاجأ الجميع بردة فعله على من نصحوه بعدم إضاعة الوقت، نظراً لقوة ما يُمسى «العهد»، الذي بات عملياً خلال الأسبوع الأول من المظاهرات والاعتصامات والمليونية الشعبية الأولى والثانية أول ضحايا الانتفاضة، التي نجحت في حصار السلطة، وتعطيل أدواتها، وإعادة السلطات إلى مكانها الدستوري في مجلس الوزراء، بعدما مارست بعض الأطراف دور الاستقواء على المؤسسات التنفيذية منذ 3 سنوات.
ففي خضم معركة إعادة تعريف جديد للدولة والكيان، وفي محاولة كتابة تاريخ جديد للجمهورية على قياس المنتصرين، رفع المتظاهرون بطاقة حمراء بوجه الجميع دون استثناء تحت شعار «كلن يعني كلن» دون إنذار مسبق، ونجحوا بسرعة فائقة في تحويل حركتهم المطلبية إلى سياسية، تبنت القطيعة شبه الكاملة مع الماضي كأنها في حالة انقسام عامودي مع مكونات السلطة، ففي 17 أكتوبر (تشرين الأول) تجاوز اللبنانيون الذين وَحَّدهم الفقر، الصراع، بين قوى «8 آذار» و«14 آذار»، كما لم تتردد «ثورة تشرين» في تنحية «ثورة الأرز»، أو ما عرف بانتفاضة الاستقلال الثاني من أدبياتهم السياسية، وطي صفحة 2005 بشعاراتها ورموزها من الجهتين، كما أنهم أعلنوا القطيعة النهائية مع نظام المحاصصة الطائفية ما بعد الحرب الأهلية، الذي تسلم السلطة سنة 1992 (الجمهورية الثانية)، الذي قام على قاعدة تحالف برجوازية الحرب الأهلية مع «ألوغارشيا» المال والسلطة، ثنائية أنتجت متلازمة الفساد والطائفية، التي تدافع اليوم عن مصالحها بشراسة بوجه أكبر انتفاضة شعبية يشهدها تاريخ لبنان الحديث؛ انتفاضة تعتمد النمط الثوري الأقرب إلى الاجتثاث تحت شعار الشعب يريد تغيير النظام.
إصرار المظاهرات التي عمت لأول مرة كافة المناطق اللبنانية، دون استثناء، على تغيير نوعي في شكل النظام، جاء نتيجة قناعات لدى هذا الجيل بضرورة الخروج من الطائفية السياسية إلى طائفة الدولة والانتهاء من اختصاصات الطوائف وامتيازاتها، شعارات جعلت طبقة السلطة تتماسك وتجتمع رغم تناقضاتها من أجل حماية بعضها بوجه حاله غير تقليدي لا يمكن مقايضته أو ابتزازه، كما أن الاحتكاك الخشن معها غير مضمون النتائج؛ خصوصاً أن المظاهرات تفرض خروجاً شعبياً كاملاً عن السياقات التاريخية للمجتمع اللبناني، أقرب إلى انتفاضة العاميات الوطنية بوجه سلطات الطوائف «نسبة إلى ثورة العامية في كسروان (1858 - 1860)»، وهي حتماً تحتاج إلى الوقت والظروف من أجل بلورة مشروعها الكامل الذي يتأسس عبر فعل السلطة وردة فعل الثورة، التي يلخصها الناشط السياسي اللبناني الدكتور وسام سعادة بقوله «لا داعي للعجلة، واقع انتفاضي طويل يفرز مناخات تأسيسية لجمهورية جديدة، اجتماعية»، فهل يحبط نظام الطوائف انتفاضة الانتقال إلى الجمهورية الثالثة.