بقلم - مصطفى فحص
أثبتت أحداث العراق الأخيرة أن مشروع التوسع الإيراني يواجه، لأول مرة، أزمة تهدد مشروعيته العقائدية والسياسية، بعدما وضع نفسه بمواجهة لها بعدان؛ الأول جغرافي، والثاني ديمغرافي، إذا أخذنا بعين الاعتبار مناطق المظاهرات، التي وحدها حددت الهوية العقائدية والثقافية للمتظاهرين، وانتماءاتهم الروحية، وليس المذهبية، التي تَقلَّص حضورها في تكوين الفرد العراقي، وانفعالاته، نتيجة لعوامل عددية؛ أهمها تراجع دور الاستقطاب الطائفي الذي مارسته أحزاب الإسلام السياسي، وفشل تجربتها في بناء دولة حديثة، إضافة إلى عامل اقتصادي معيشي، نتيجة الفساد وسوء توزيع الثروة، الأمر الذي انعكس على مواقف أغلب الطبقات الاجتماعية، خصوصاً العاملة، تلك التي تقطن في أكثر مناطق العراق غناً ولكنها الأشد فقراً.
مما لا شك فيه أن تقلص العامل المذهبي، خصوصاً لدى شيعة العراق، أدى إلى بروز معضلة بنيوية في علاقتهم مع طهران، وموقفهم من هيمنتها على قرارهم الوطني منذ سقوط نظام صدام حسين، هذه المعضلة باتت الآن تمس جوهر العقيدة التي تذرع بها نظام طهران من أجل تبرير مفهومه التوسعي الذي قام على مبدأين؛ تصدير الثورة كنموذج إسلامي أممي بزعامة الولي الفقيه، واستقطاب الحالة الشيعية غير الإيرانية، بعدما قدم نفسه الحامي الوحيد لها، ويأتي تركيزه على الحالة العراقية كونها تمثل الهوية العقائدية الشيعية ورمزيتها (النجف وكربلاء) يستخدمها لتبرير شرعيته خارج حدوده الوطنية، التي إذا خسرها سيتعرض مشروعه إلى انكشاف عقائدي لا يمكن تعويضه. وقد ظهر الربط الواضح والصريح ما بين قدسية المكان وعقيدة النفوذ الإيراني، في تصريح للرئيس حسن روحاني في شهر مارس (آذار) 2016، حين أكد أن «إيران سوف تتدخل في أي مكان توجد به مقامات للشيعة، وتتعرض إلى تهديد من قبل الإرهابيين».
عملياً، كشفت المظاهرات الأخيرة عن فشل مشروع الاستقطاب الإيراني بطبيعته الاستتباعية، التي استهدفت تذويب الهوية الوطنية العراقية بهدف التماهي الكامل مع طهران، حيث شكل صعود الحس الوطني دوراً لافتاً في «انتفاضة تشرين الأول» المطلبية، التي وَجَّهت إنذاراً سياسياً لطهران يحذرها من مغبة خسارة البيئة الاجتماعية الشيعية الرافضة لتصرفاتها في الشأن العراقي، وشكلت صدمة لنفوذها في العراق، ما دفعها إلى استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين من أجل القضاء على حالة شبابية ممكن أن تتوسع، وتصبح جماهرية تهدد سيطرة حلفائه على الدولة، وتهدد وجودها في المكان الذي تستمد منه المشروعية العقائدية لمشروعه.
منذ معاهدة «زهاب» المعروفة باتفاقية «قصر شرين» ما بين السلطة العثمانية والدولة الصفوية، سنة 1639، التي حددت أُطر الوجود الإيراني في العراق حتى أبريل (نيسان) 2003، خضع استقرار النظام السياسي في إيران لتأثيرات النجف، وكانت الحركة المشروطية، أو ما يعرف بالثورة الدستورية عام 1907، المحطة الأبرز في حجم حضور النجف، وتأثيرها على النخب السياسية والثقافية والاقتصادية (البازار) في الدولة الإيرانية، أما المحطة الثانية هي نفي زعيم الثورة الإسلامية الإيرانية الخميني إلى النجف بعد خروجه من تركيا 1965، وفي المحطتين أثرت النجف في التحولات الإيرانية، بسبب الربط ما بين قداسة المكان، وتأثيره على الفرد أو المشروع، ففي النجف كتب الخميني كتابه الذي بنى عليه مشروعه السياسي «الحكومة الإسلامية»، كما أنه من النجف خرجت أول النصوص الإصلاحية في الفقه السياسي الشيعي للمرجع آية الله النائيني كتاب «تنبه الأمة وتنزيه الملة» الذي كتبه النائيني مطلع القرن الماضي، ويعبر عن ذروة تعاطي الحوزة العلمية الشيعية التقليدية في الشؤون السياسية، حيث انحاز مجموعة من أساتذتها إلى «الحركة المشروطية» (الدستورية) بوجه أنصار المستبدة، هذا الانحياز أو التبني النجفي للمشروطية كان له تأثير مباشر على تطور الأوضاع السياسية في إيران، وكان أحد أبرز العوامل التي مهدت للثورة الدستورية سنة 1907.
في الوعي السياسي الإيراني، هناك كتابان يملكان حيزاً كبيراً في ذاكرتهم السياسية والعقائدية صدرا في النجف؛ الأول كشف عن حجم تأثير الحوزة النجفية في المجتمعات الشيعية في العالم، والثاني بقي خارج المنظومة الفكرية النجفية الكلاسيكية التي تحافظ على مسافة دقيقة وحساسة في علاقتها المباشرة مع السياسة، والتي برزت في تحفظها على مشروع ولاية الفقيه، وتمسكها بولاية الأمة على نفسها، وبرزت في تبنيها للمشروطية الدستورية التي تنظم الحياة السياسية في البلدان التي يطبق فيها الدستور، والدعوة إلى اندماج الشيعة في أوطانهم.
يدرك النظام الإيراني أن السيادة العراقية تمر بالنجف العصية على المصادرة، ومن دونها يفقد أي نظام في بغداد أو طهران كثيراً من شرعيته التي لم تعد ممكنة، بعد انحياز النجف بطبيعتها الكلاسيكية إلى المشروطية، فباتت مشروعية طهران ومشروعها التوسعي الاستبدادي أمام تحدٍ نجفي أقرب إلى وجدان المتظاهرين ومشروعيتهم.