بمناسبة النقاشات التي تجري في المغرب حول العديد من القضايا، أصبح الإسلاميون المشاركون في الحكومة يلجؤون، بشكل متزايد، إلى مواجهة خصومهم بما يمكن أن نسميه سلاح أو شعار أو مقولة “بيننا وبينكم الشعب”. يتعلق الأمر بسلاح يُعتبر الأمضى، في نظر مستعمليه، ويتمثل في إشهار تحد، واتهام الخصوم بالعجز عن رفعه أو عن الارتقاء إلى مستواه أو عن قبول المنازلة التي يقوم عليها. أصبح، هناك، من يردد، باستمرار، أن على من يحملون آراء أو مواقف مخالفة لآراء ومواقف الإسلاميين أن يقبلوا، إذا كانوا حقاً ديمقراطيين، بأن يتم استفتاء الشعب والنزول إليه وأخذ رأيه والاحتكام إليه واستدعاء تدخله والانضباط إلى ما يقرره وإعطاؤه حق قول الكلمة الفصل وسلطة حسم الخلاف.
وتبعاً لذلك، يعتبر الإسلاميون بأنهم هم من يعرف حقيقة الشعب، وهم من يمثل ويترجم إرادته، بخصوص كل القضايا، وبأن ما يصدر عنهم، كله، يتطابق مع ما يريده الشعب. وبحكم تصدرهم نتائج آخر انتخابات تشريعية عرفها المغرب، وبما أن الاستفتاء العام هو أرقى آلية لتعبير الشعوب عن إرادتها، فإن رفع شعار “بيننا وبينكم الشعب”، الذي أصبح يستهوي، بشكل خاص، الأستاذ مصطفى الرميد، هذه الأيام، يبدو، ظاهرياً، متفقاً مع المنطق الديمقراطي، لكنه في العمق، ينم عن نرعة لا تخلو من تشدد وشعبوية، وعن قصور في إدراك المعنى العميق للديمقراطية والترابط المتين القائم بين الأركان المكونة لها.
الإكثار من الحديث عن فرضية استفتاء الشعب، بخصوص أي قضية، فيه، طبعاً، تملق للشعب، خاصة أن من يفعلون ذلك يعلمون بأنهم لن يلجؤوا إلى الاستفتاء، أبداً، لما في ذلك من تعارض مع المقتضيات والالتزامات المتفرعة عن التصور البنكيراني للمشاركة في الحكومة، إلا أن المهم، بالنسبة إليهم، ليس هو أن يتحقق ذلك أو لا يتحقق، ولكن المهم هو أن يُظْهِرُوا أصحاب الرأي المخالف ككائنات مفصولة عن الشعب.
الشعب هو مصدر السلطة، هذا هو الأساس الأول للديمقراطية، ويتعين على الجميع احترامه، ولكنه ليس كافياً لقيام الديمقراطية.
وقضية استفتاء الشعب تقتضي التنبيه إلى أن ما يصدر عن الشعب، أو عن بعض أفراده، قد يجانب الصواب، فهل نزكي، مثلاً، قيام بعض أفراد الشعب بالتعامل بغير احترام مع أتباع ديانة أخرى، أو باستدعاء خدمات مشعوذ عوض اللجوء إلى الطبيب، أو بمداواة الصرع لدى فقيه ومرض في العظام لدى ممارس للكي، أو بقبول تقديم الرشوة، أو تشغيل الأطفال، أو ضرب الزوجة، أو المس بالسلامة البدنية لمن تسبب في ارتكاب حادثة سير أو بالاعتداء على امرأة ترتدي لباساً يعتبره المعتدي غير محتشم؟ أليست مهمة النخب والأحزاب والتنظيمات السياسية والثقافية والتربوية والرياضية والفنية هي المساهمة، أيضاً، في إرشاد الشعب وتوجيهه وتلقينه أصول الممارسة المواطنتية السليمة وقيم العصر ومبادئ حقوق الإنسان؟
كل ما ينجم عن الديمقراطية من “أخطاء” يُصَحَّحُ ويُقَوَّمُ بالديمقراطية نفسها، ولا يمكن طبعاً للنخب أن تمارس الوصاية على الشعب، فإذا اقتنع أو أُقنِعَ بإصدار تشريعات تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، فإن المجموعة الدولية ستعتبر، بكل بساطة، بأن مقومات النظام الديمقراطي لم تُستكمل بعد.
وماذا نقصد بعبارة “الشعب” في مجال الحريات الفردية تحديداً؟ هل يتعلق الأمر بخطاب الشعب أم بممارساته؟ هل نعتبر أن ما يريده الشعب هو ما قد يقول إنه يريده أم هو ما يعيشه كل يوم ويتبناه واقعياً ويصدر عنه من تصرفات؟
الإدمان على رفع شعار “بيننا وبينكم الشعب” ينطلق، في الكثير من الأحيان، من فهم ناقص للديمقراطية واختزالها في السيادة الشعبية وحدها، ولو بدون حريات. ومن ثمة نفهم، مثلاً، إلحاح الإسلاميين المستمر على التصريح بأنهم يتبنون الديمقراطية كآليات وليس كفلسفة، فهم يقصدون بالآليات آلية واحدة هي السيادة الشعبية، ماداموا يعتبرونها لصالحهم، أما “الباقي” فلا حاجة ماسة إليه. إنهم يهمشون آلية الحريات، أحيانا، لاعتقادهم بأنها، ربما، تعكس “فلسفة” الديمقراطية.
الديمقراطية لا تقوم إلا باجتماع آليتي السيادة الشعبية والحريات، وآليات أخرى، وكل نظام يهدر الحريات الأساسية ليس ديمقراطياً حتى ولو احترم قاعدة الانتخابات الدورية النزيهة ومنح المنتخبين صلاحية التقرير.
وبالرغم من أن الديمقراطية، اليوم، ليست ديمقراطية مباشرة، فمن الممكن، بين الفينة والأخرى، أن نلجأ إلى آلية الاستفتاء للحسم في بعض القضايا الخلافية المتروكة، حتى الآن، بحكم طبيعتها، لإعمال التقدير الخاص للمجتمعات. هناك دول ديمقراطية، لكنها ترفض الاعتراف رسمياً بالزواج المثلي، أو تُبْقِي على عقوبة الإعدام، أو تتخذ موقفاً من الإجهاض، مخالفاً لمواقف دول أخرى ديمقراطية، لكن ذلك لا يعني السماح لبلد ما بتقييد الحق في التعبير، بطريقة تتعارض مع المعمول به في المجتمعات الديمقراطية، أو بعدم احترام قواعد المحاكمة العادلة أو فصل السلطات أو استقلال القضاء أو حرية اختيار الديانة وتغييرها، حتى لو احتج البلد المعني بأن كل ما فعله تَمَّ بناءً على نتائج استفتاءات عامة.
إن نظاماً، كالنظام الإيراني، ليس ديمقراطياً، رغم اعتماده آلية الانتخاب، لأننا لا يمكن أن نتصور السماح لشخصية ماركسية، مثلاً، بالترشيح وخوض حملة انتخابية تقترح فيها على الناخبين برنامجاً ذا مرجعية مخالفة لمرجعية نظام ما بعد الثورة.
هناك قواعد كبرى للحريات لا يمكن لخرقها أن يصبح مشروعاً لمجرد تقريره بواسطة استفتاء؛ فهذه القواعد لا يمكن أن تقرر في مصيرها الأغلبية بمطلق الحرية. يجب ألا يترتب عن هذا التقرير أذى ملموس يطال حقوق الأقلية، ولهذا فإن النظام العام للحقوق والحريات يجب، في مراحل الانتقال الديمقراطي، أن يكون، في خطوطه الكبرى، موضوع توافق بين الأغلبية والأقلية.
وبما أن الأستاذ الرميد يقدر، ربما، بأن منتقدي مسودة مشروع القانون الجنائي لن يقبلوا استفتاء الشعب، فإنه ينطلق من كونه، إذن، يمثل أغلبية الشعب (رغم أن نتائج الانتخابات منحت فريقه النيابي 107 مقاعد، فقط، من أصل 395 مقعداً بمجلس النواب)، وبالتالي فإن له حق تحديد الخطوط الحمراء وتحديد ما يجوز وما لا يجوز النقاش فيه بخصوص المسودة. وهكذا صرح الرجل بأن “الخطوط الحمراء التي لن نقبل بتجاوزها أو المساس بها، هي إسلامية الدولة وكل ما يمكن أن يمس بالنظام العام الأخلاقي للمغرب”. وبالرغم من أن أي أحد، بمناسبة النقاش الجاري، لم يطالب بإلغاء رسمية الدين الإسلامي، فإن السيد الوزير قرر، بخصوص “النظام العام الأخلاقي للمغرب”، أن يحدد بمفرده، وبصورة مسبقة، مصير النص، متجاهلاً، بذلك، ما يمكن أن تفضي إليه مداولات البرلمان، ومتجاهلاً ما يمكن أن تفضي إليه مداولات الحكومة، نفسها، وأطراف الائتلاف الحكومي الأخرى، التي لها رأي مغاير، في الموضوع.
لقد أكد ذ.الرميد، أكثر من مرة، أن الذين يعارضون تجريم المسودة لبعض السلوكات “هم جملة من الجمعيات والهيئات محدودة الأشخاص لا تمثل، أبداً، الرأي العام الغالب”. وزكى ذ.عبد الإله بنكيران نفس المنحى بقوله “لا يمكن أن أطبق وجهة نظر الصحافيين والمثقفين”. مثل هذا الخطاب ينطلق من أن الأقلية ستظل، دائماً، هي الأقلية، والأغلبية ستظل دائماً هي الأغلبية؛ لكن من كان يتصور، مثلاً، قبل 10 سنوات من تنصيب حكومة بنكيران، أن حزب العدالة والتنمية سيصل إلى رئاسة الحكومة؟
مثل هذا الخطاب، ينطلق، كذلك، من أن هناك صحافيين ومثقفين، وهناك الشعب. بعبارة أخرى، هناك حداثيون وعلمانيون، وهناك الشعب، وهؤلاء الصحافيون والمثقفون، والعلمانيون أو الحداثيون، يمثلون جماعة لا قيمة لها في المجتمع ولا وزن لها يُذكر ولا تستحق أن ينصت إليها الناس. لكن ما يتم تناسيه هو أن هذه الجماعة هي التي انبثق فريق منها، في مواقع التواصل الاجتماعي، لإطلاق أول نداء للتظاهر في 20 فبراير 2011، وأول احتجاج على قرار العفو عن دانيال كالفان، وأول شرارة للنضال من أجل تحسين الوضعية القانونية للمرأة ومن أجل تغيير الدستور. هذه الجماعة، إذن، دشنت أول خطوة في صنع الدينامية التي أوصلت بنكيران إلى رئاسة الحكومة.