محمد الساسي
المثقفون، أو جزء كبير منهم على الأصح، في المنطقة "العربية الإسلامية"، مسؤولون، بجانب أطراف أخرى، عن تعثر مشروع الإصلاح الديني. هناك حركات إسلامية ترى أن هذا الإصلاح ليس من مصلحتها لأنه سيفرض عليها رفع تحفظاتها عن بعض مبادئ الديمقراطية وسيحرمها من امتياز الحديث باسم الإسلام وادعاء إعادة الاعتبار إليه وحمايته من المؤامرات التي يدبرها ضده الغرب والموالون له. وهناك أنظمة سلطوية تتنافس مع الحركات الإسلامية في سباق الفوز بلقب الطرف الأكثر إسلاماً من الآخر، ولو كان ذلك على حساب الإصلاح الديني. ولاشك أن إخفاق هذا الإصلاح، في منطقتنا، يمثل أحد مصادر إنتاج السلوكات المتسمة بالدموية ورفض الآخر والتحجر الماضوي، والساعية إلى إقامة أنظمة شمولية باسم الإسلام وإلى "الثأر" من أعداء الإسلام بقتل الصحفيين واحتجاز وترويع أتباع ديانة أخرى، كما جرى، مؤخراً، في باريس.
واليوم، هل سينهض المثقفون بمسؤولية المساهمة الفاعلة في إعادة إحياء وإنجاح مشروع الإصلاح الديني كشرط ثقافي ضروري لتجاوز حالة التخلف واللحاق بركب التنمية والنهضة؟ ونقصد بالمثقفين، هنا، الجزء المتشبع، منهم، بفكر الأنوار، أي بقيم العقل والعمل والحرية والتقدم والديمقراطية وحقوق الإنسان والعلم والحداثة.
فريق، من هؤلاء المثقفين، اختار احتقار ظاهرة تدين الشعب واعتبارها المسؤولة عن كل الكوارث، وتعامل مع " العودة إلى الدين"، في حد ذاتها وفي كل الأحوال، كمعطى سلبي. ورأى هذا الفريق أن الولوج إلى الحداثة يجب أن يتم من خلال القطيعة مع الدين وأن كل ما التصق بالدين الإسلامي، على مدى عدة قرون، من مظاهر سيئة لا يمكن الفكاك منه، وما علق به من أدران لا يمكن إزالته؛ وبذلك يعفي هذا الفريق نفسه من مهمة إنجاز حفريات ضرورية لاستخرج الاجتهادات والكنوز المطمورة والكشف عن الأسس التي يمكن، من داخل التراث الإسلامي نفسه، أن يقوم عليها مشروع التجديد والإصلاح الدينيين.
مثقفو الفريق المذكور، إما أنهم لا يخاطبون أحداً ولا يشاركون في النقاش العام حول المسألة الدينية ولا يدلون بدلوهم في القضايا التي تُطرح في الساحة العامة، أو أنهم يخاطبون بعضهم بعضاً ويكتفون بالانزواء في أبراج عاجية بعيداً عن حركية المجتمع والتفاعلات الجارية في قاعدته؛ وجزء منهم اختار التحالف مع أنظمة سلطوية وأوكل إليها مهمة قطع دابر الهياكل التنظيمية للتطرف والتكفير الجهاديين باستعمال عنف الدولة وبالإقصاء السياسي وكبت الحريات.
وفريق آخر، من هؤلاء المثقفين، فضل مسايرة الموجة الأصولية والضرب على الوتر الحساس للجماهير، ولو بتركيز ودعم النزعات اللاعقلانية والنكوصية، وقبول التضحية بالحرية، ووأد الإبداع، والتنازل عن بعض جوانب حقوق الإنسان، طمعاً في مجد أو جاه أو شهرة أو أصوات انتخابية، أو تجنباً للمشاكل و التماساً ل "سلامة الوقت"، أو للتعبير عن كونه جزءاً من الشعب يقاسمه المشاعر والأحاسيس، ذاتها، ويحمل معه الهموم، ذاتها.
والنتيجة، في كل الأحوال، هي أن "المثقف الأصولي" تُرك له مجال واسع للتحرك والفعل والتدخل بدون منافسة وازنة، وخاصة مع ظهور شبكة كثيفة من الجرائد والفضائيات والمواقع الإلكترونية التي تتولى، ليل نهار، نشر التطرف وصناعة الأوهام ومعاداة العقل واستحسان العنف وإنكار الحق في الاختلاف، باسم خدمة "قضية الإسلام" وباسم التعريف بأحكامه والدفاع عن وجوده وتبليغ خطابه واسترجاع أمجاده وإحياء تاريخه، مستغلة في ذلك، بحذق بالغ، تشبت المسلمين بدينهم وغيرتهم عليه واعتزازهم به واستحكام الأمية والجهل في صفوفهم.
يعاين المثقفون، يومياً، نشر سيل من الخطابات والشعارات والمواقف والتحاليل والفتاوى التي تستحق الرد، ولكنهم لا ينتفضون، بالقدر المطلوب، ولا يشهرون، في وجه ما يُنشر، سلاح المواجهة الفكرية المعتمدة على أسلوب بيداغوجي يجعل أمر الفهم والإدراك ميسراً لأكبر عدد ممكن من الناس.
لا يباشر المثقفون ردود الفعل المنتظرة منهم : عندما يقوم المتظاهرون برفع شعار (خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سيعود)؛ وعندما يصرح قياديون إسلاميون مشارقة، بمناسبة حركة الاحتجاج على الرسوم المسيئة إلى الرسول، عليه السلام، بما يلي : "سنقطع يد وعنق ونريق دم كل من تطاول على نبينا الكريم"؛ وعندما تُذاع، على العموم، كتابات تقدم تسويغاً دينياً للاعتقاد بالخرافات والمعجزات وتنازع في ما توصلت إليه العلوم من حقائق؛ وعندما يمنح علماء الدين لأنفسهم، في إذاعات خاصة، كما يجري في المغرب، حق تفسير الأحلام، كما لو كانوا أطباء نفسانيين، ويوصون المستمعين، مثلاً، بـ"عدم العوم في مكان خال، بعد صلاة العصر، حتى لا يضربهم الجن"، وينصحون شخصاً لم يعد قادراً على تحريك ذراعه، لأنه أصيب بـ "ضربة الجن"، أن يباشر العلاج بالرقية عوض دعوته إلى مراجعة طبيب العظام أو طبيب الجهاز العصبي .. إلخ؛ وعندما تغذي منشورات بعض التنظيمات السياسية وكتب قادتها حُلمَ إعادة فتح الأندلس وتقول بوجود وعد من الله سبحانه وتعالى، لنا كمسلمين، بدخول قرطبة أو صقلية أو روما، دخول الفاتحين؛ وعندما يفتي العلماء بأن السحر موجود ويشيرون على "ضحاياه" باعتماد الوصفات "الناجعة" التي تضمن، في نظرهم، إبطال مفعوله؛ وعندما يعتبر البعض، انطلاقاً من قراءة حرفية للنصوص، أن ما جاء، في الحديث النبوي الشريف الذي يشير إلى حسنات الحبة السوداء، يجعلها، بعد 14 قرناً، تحتفظ بنفس قيمتها الطبية رغم التطور الهائل الذي حصل على مستوى العلوم الطبية والصناعات الدوائية؛ وعندما يركز البعض على جواز تمني الموت إعلاءً لكلمة الله وفي سبيل الإسلام ويرفق ذلك بتكثيف الحديث عن وجود حرب حقيقية مستعرة ضد الإسلام، بوصفه إسلاماً، في أكثر من نقطة في العالم؛ وعندما يرسخ كثير من فقهاء الدين، في أذهان الشباب الفقير واليائس والمحبط، الفكرة القائمة على أن الحياة مجرد محطة عبور لا قيمة لها، وأن المهمة الوحيدة للمسلم الحقيقي هي الإعداد للحياة الآخرة؛ وعندما يقول الأصوليون إن الأنظمة الغربية ليست ديمقراطية، وإن رفعها شعار الديمقراطية هو عملية تزييف للواقع وخداع للناس، بينما أنظمة البلدان الغربية الكبرى تتوفر على الحد الأدنى للديمقراطية رغم كل العيوب والمساوئ التي تعتريها؛ وعندما يتم الترويج لمعطيات غير صحيحة، مثل القول إن نشر رسوم أو إنتاج أفلام مسيئة إلى الرسول يدخلان في إطار هجوم على الإسلام تقرر في أعلى مراكز القرار الغربية؛ وعندما يتم، عمداً، إخفاء عدد من الحقائق عن الجماهير المسلمة مثل حقيقة كون الجرائد، التي نشرت الرسوم، سبق لها أيضاً أن نشرت رسوماً مسيئة إلى رسل آخرين وديانات أخرى من تلك التي تنتسب إليها أغلبية سكان البلدان التي تصدر فيها تلك الجرائد؛ وعندما يُقال للناس، صراحة أو ضمناً، إن المرجعية الدولية لا قيمة لها إطلاقاً ولا تنفعنا نهائياً كمسلمين، وإن الأمم المتحدة طرف معاد لنا وُجِدَ، في الأصل، لمحاربتنا، والحال أن المؤسسات والمواثيق الدولية لا بديل عنها، بالنسبة إلى كافة البشر، رغم وجود عيوب بها...
أمام مثل هذه المواقف، يتعين على المثقفين، في نظرنا ، العمل على إعادة الاعتبار إلى العقل والمعرفة والعمل وتجذير الفكر النهضوي واستئناف حركة التنوير والمساهمة في محاربة الأمية والجهل، وتمكين الجمهور العام من إدراك الحقائق العلمية والإحاطة بالمعطيات الإخبارية الصحيحة، وإعادة التعريف بالجوانب المشرقة في ثراتنا الفقهي والفلسفي، وإرجاع الثقة إلى المسلمين في جدوى ركوب السبل "الإيجابية" في الدفاع عن قضاياهم واستثمار الإمكانات، التي يوفرها الحوار بين الأديان والحضارات والمجتمعات، لتبديد الكثير من سوء التفاهم المتعلق بطريقة ضبط نوع العلاقة التي يجب أن تقوم بين الحق في حرية التعبير وواجب عدم تحقير الأديان وتحديد الصيغة المادية التي يمكن أن تترجم فعل التحقير (كإحراق الكتب السماوية، مثلاً).
الأفعال الهمجية والبشعة التي تُقترف، اليوم، باسم الإسلام، تسائلنا جميعاً وتسائل مثقفينا وتلقي على عاتقهم واجب النزول إلى الساحة العامة، ومعالجة الانفصال القائم بين النخب والجماهير، والتعاون مع المجتمع المدني ومد قنوات التواصل مع الشباب، والمساهمة الفاعلة في إنجاز مهمة الإصلاح الديني بواسطة الدفاع عن إسلام مقاصدي متنور، لا يكفر بالنصوص ولا يعاديها، ولكنه يعيد قراءتها ويعيد تركيبها في بناء متجدد وشامل تأخذ فيه قيم الحرية والعقل والتقدم مكانها كجوهر للإسلام وليس كنبتة طفيلية في تربته.