الإجهاض  الفُصُول العشرة

الإجهاض .. الفُصُول العشرة

المغرب اليوم -

الإجهاض  الفُصُول العشرة

محمد الساسي


الذين أخذوا مبادرة فتح النقاش، في الساحة العامة، حول مسألة الإجهاض، لم يفعلوا ذلك لدوافع إيديولوجية خالصة، بل أرادوا المساهمة، أساسًا، في وضع حد لمآس تقع يومياً في المغرب.

مئات من النساء يلجأن إلى الإجهاض بسبب ظروف ضاغطة لا يستطعن مقاومتها ويقبلن تعريض أنفسهن لمخاطر جمة لأن القانون ليس في صفهن ولا يزكي صنيعهن. أمام انعدام القدرة على الحد من العوامل المؤدية إلى الحمل، وأمام العجز عن استبعاد الظروف التي تجعل إقبال الحامل على الإجهاض أمراً شبه حتمي، يصبح الصمت سيد الموقف ويُترك الحبل على الغارب، فلا نحن غيرنا الواقع ولا نحن غيرنا القانون، بينما حجم الكوارث التي تحدث أمام أنظارنا يكبر ويتنامى.

ومهمتنا المستعجلة، حالياً، هي،أولاً، حماية المجتمع من المخاطر والأضرار الناجمة عن عمليات الإجهاض التي تجري، بالمئات يومياً، في ظروف غير آمنة. بعد حصول حالة حمل، خارج الزواج، يكون رد الفعل المنتظر، عادة، من العائلة قاسياً وخطيراً؛ ولهذا فإن قيام هذه الحالة يعني أن الفتاة الحامل لا تملك، في الواقع، أي حل آخر سوى الإجهاض؛ وإذا طالبناها بالإبقاء على حملها، فهل نستطيع أن نضمن لها الحفاظ على حياتها وسلامتها ووضعها الاجتماعي وتفهم المجتمع لظروفها والتجاوز عن خطئها؟

المطالبة بتجريم الإجهاض ليست قضية الإسلاميين فقط، بل هي كانت، في مختلف مناطق العالم، قضية اليمين المحافظ والتيارات الدينية الغربية، وكانت تُنظم، في أمريكا نفسها، وقفات احتجاجية أمام العيادات والمصحات التي تُمارس فيها عمليات الإجهاض. ولكن المحافظين، اليوم، فقدوا الكثير من مكتسباتهم وقوة تأثيرهم في مسار هذا الموضوع بالذات؛ وتكفي الإشارة هنا، مثلاً، إلى الصعوبات التي تواجهها خطة اليمين الإسباني الرامية إلى إضفاء بعض التشدد على النصوص القانونية المتعلقة بالإجهاض وإلى إعادة إحياء بعض المقتضيات التي كانت سارية في الماضي. وفي فرنسا، مرت الآن أربعون سنة على صدور قانون “سيمون فاي” الذي يبيح الإجهاض. وحتى في البلدان، ذات التقاليد المسيحية، فإن الوضع تطور جذرياً في اتجاه توسيع حالات الإباحة، كما هو الشأن في إيطاليا. وعلى العموم، أصبح الإجهاض مسموحاً به في البلدان المتقدمة لأسباب مختلفة، وتُراعى في ذلك إرادة الأم، ويُمارس خلال الـ 12 أسبوعاً الأولى من الحمل.

وفي العالم العربي، تتميز تونس بتوفرها على أحكام قانونية تسمح بالإجهاض، خلال الثلاثة أشهر الأولى من الحمل، بل وتسمح به، حتى بعد فوات هذه المدة، إذا كان يُخشى أن يؤدي استمرار الحمل إلى “انهيار صحة الأم”.

أما بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية، فليس هناك نص في القرآن أو السنة يحرم الإجهاض؛ والمفروض، إذن، أن يُفتح باب الاجتهاد على مصراعيه للوصول إلى حلول تراعي، في الآن ذاته، مصلحة الولد، قبل وبعد الولادة، ومصلحة الأم ومصلحة المجتمع. لكن رموزاً إسلامية معروفة، في المغرب، تؤسس موقف الرفض شبه الكلي للإجهاض على قاعدة قوله تعالى في سورة الأنعام “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق”، إلا أن هذه الآية الكريمة تذكر بقاعدة عامة موجودة في كل القوانين والأديان، ووجودها لم يكن كافيا لحسم الموقف من الإجهاض، فهي لا تحدد متى نكون أمام “نفس بشرية”، وهذا الأمر بالغ الدقة. هل من المنطقي أن نبدي نوعا من التشبث الأعمى بالحق في حياة من لم يولد بعدولو في ظل ظروف اجتماعية تجعل الحق في حياة الأم مهددا بشكل جدي؟

الرموز الإسلامية، المشار إليها، كانت تردد، دائما، أنها لا تقبل مخالفة” نص قطعي الدلالة في القرآن أو السنة”؛ أما القضايا التي لم يرد فيها نص بهذه المواصفات فهي ” قابلة للنقاش”؛ واليوم، ورغم غياب النص، فإن تلك الرموز تتصرف كما لو أنه موجود، وتقدم موقفها على أنه المطابق لأحكام الله وتتعمد، في خطابها، إخفاء المواقف المخالفة التي تبلورت، من داخل الفقه الإسلامي، بخصوص قضية إسقاط الحمل. داخل كل مذهب من المذاهب الأساسية، في الإسلام، نشأ رأي يقول إما بإباحة الإجهاض، قبل نفخ الروح أو قبل 40 يوماً من الحمل، أو يقول بكراهته، بمعنى أنه لا يحرمه. وأكثر المذاهب تشدداً، في الموضوع، هو المذهب المالكي، عموماً، وأكثرها مرونة هو المذهب الحنفي. وعندما يختار المحافظون مناصرة موقف جمهور المالكية فليس ذلك لأنهم “أكثر مالكية” من الآخرين، بل لأنهم وجدوا في المذهب، بالنسبة إلى موضوع الإجهاض بالذات، ضالتهم ومبتغاهم وانعكاساً لموقفهم المسبق كمحافظين. أما المتنورون فيطالبون باعتماد موقف الحنفية من الموضوع. للحنفية، بخصوص إسقاط الحمل قبل نفخ الروح، ثلاثة أقوال : الأول يجيزه مادام لم يحصل التَخَلُّقُ بعد (ابن عابدين)؛ الثاني يجيزه إذا توفر العذر (ابن وهبان)؛ والثالث يقضي بكراهته. ونفخ الروح يتم بعد أربعة أشهر من عمر الجنين، وإذا لم يحصل التخلق فلا وجود لكائن إنساني. والقول الذي يشترط قيام العذر يقدم، كمثال على ذلك، حالة المرأة التي ينقطع لبنها ولا يكون في مقدور زوجها ضمان أجر مرضع،  ويُخشى بالتالي هلاك الولد بعد الوضع.

ولقد أفرد المشرع المغربي، في المجموعة الجنائية، عشرة فصول منها لموضوع الإجهاض (الفصول من 449 إلى 458)، وهي تحتاج، جميعها، إلى تعديل، يعيد تحديد الحالات المسموح فيها بالإجهاض، ويضع مساطر جديدة ويخففها عموما، ويخفض مقادير العقوبات.

وهكذا نرى أن يُنَصَّ على منع الإجهاض باستثناء الحالات التي يمثل فيها تواصل الحمل خطراً ذا شأن على صحة الحامل الجسدية أو النفسية أو على سلامتها ووضعها الاجتماعي، أو على سلامة ومستقبل الولد بعد الولادة. وعليه، فإن الظروف، التي تندرج ضمن عموم هذه الحالات، تنقسم إلى ثلاثة :

ظروف صحية : وهنا نبقى، دائماً، في الإطار الذي يرسمه الفصل 453 عندما يقضي بأنه “لا عقاب على الإجهاض إذا استوجبته ضرورة المحافظة على صحة الأم”، ونقترح، فقط، التأكيد الصريح على اعتبار الصحة النفسية جزءا لا يتجزأ من مفهوم الصحة، طبقاً لما تراه منظمة الصحة العالمية التي تعتبر الصحة “حالة من اكتمال السلامة، بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرد انعدام المرض أو العجز” على أن يتوقف إثبات الظروف المقصودة من خلال تقريرين لطبيبين مختلفين، وألا يكون أحدهما هو من سيمارس عملية الإجهاض، وأن تجري العملية داخل ال12 أسبوعًا من الحمل ما لم يتحول الأمر إلى تهديد لحياة المرأة؛
ظروف خاصة : ونقصد بها خمس حالات، يُسمح فيها بالإجهاض في أية مرحلة من مراحل الحمل، وهي أ- الحمل الناتج عن اغتصاب، وذلك نظرًا إلى احتمال تأثير ذكرى الجريمة في طبيعة العلاقة التي تقوم بين الأم وولدها؛ ب- حالة الحمل الناتج عن زنا المحارم، وذاك بسبب المأزق النفسي الذي ستُوضع فيه العلاقات العائلية وانعكاسها الخطير على حياة الولد أساسًا؛ ج- التشوه الخِلْقِي للجنين والذي سيترتب عنه، بعد الولادة، معاناة شديدة للولد وأبويه معًا، وقد أباح مجمع الفقه الإسلامي، في مكة المكرمة، اللجوء إلى الإجهاض في هذه الحالة، قبل مرور 120 يومًا على الحمل؛ د- الخلل العقلي للحامل، وذلك بسبب ما ينطوي عليه ذلك من خطر على حياة أو سلامة الولد؛ هـ-السن المتقدم للحامل، وذلك بسبب ضعف قدرتها على تأمين كافة متطلبات رعاية وحماية الولد وتأمين مستقبله؛
ظروف اجتماعية : كأن يتعذر على الأم النهوض بكامل واجباتها إزاء ولدها والعناية الكافية به بسبب ظروف دراستها أو عملها أو رعايتها لأطفال آخرين. وبصورة عامة، نعني بهذه الظروف مختلف الأوضاع الاجتماعية القاهرة والتي لا يمكن معها أن تتوفر للأم أو لولدها شروط الحياة العادية والسليمة. ولا بد من وجود آلية طبية واجتماعية للتحري في الأمر ولإثبات قيام الظروف، والتحاور مع الحامل بصراحة وصدق مشمولين بالطابع السري وإشعارها بمخاطر الإجهاض، ثم تقريره إذا لم يكن هناك أي بديل آخر، على أن يجري داخـل ال12 أسبوعاً من الحمل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإجهاض  الفُصُول العشرة الإجهاض  الفُصُول العشرة



GMT 17:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا تفعلون في هذي الديار؟

GMT 16:02 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 16:00 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 15:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الفاتيكان... ومرثية غزة الجريحة

GMT 15:54 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لقاء أبوظبي والقضايا الصعبة!

GMT 15:53 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

أوهام مغلوطة عن سرطان الثدي

GMT 15:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

وجع فى رأس إسرائيل

GMT 15:47 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حكم «الجنائية» وتوابعه

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 18:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة
المغرب اليوم - حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 18:36 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
المغرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 07:41 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

إكس" توقف حساب المرشد الإيراني خامنئي بعد منشور بالعبرية

GMT 02:37 2024 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الأسهم الأوروبية تنهي تداولات الأسبوع على انخفاض طفيف

GMT 03:49 2024 الجمعة ,25 تشرين الأول / أكتوبر

كيف يمكن إحلال 40 مليار دولار واردات سنوية من مجموعة بريكس

GMT 21:29 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

الدولار عند أعلى مستوى في شهرين ونصف والين يتراجع

GMT 01:10 2024 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بعض دول الـ«بريكس» لها مؤشرات اقتصادية عالية

GMT 02:26 2024 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

ارتفاع الاحتياطي النقدي المصري 279% في 10 سنوات

GMT 02:41 2016 الأحد ,07 شباط / فبراير

دبي تطلق مشروع أكبر مكتبة في العالم العربي

GMT 03:05 2019 الخميس ,21 شباط / فبراير

ساندي تُبدي سعادتها بدورها في فيلم "عيش حياتك"

GMT 00:30 2018 الثلاثاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

عبد الحق الخيام يلقي نظرة الوداع على والدته
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib