ردّت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران على الضربة التي تلقتها من إسرائيل في دمشق. لا ينفي ذلك وجود واقع لا يمكن الهرب منه على الرغم من أنّ الرد الإيراني كان أقرب إلى فيلم أعد له سيناريو محكم بين واشنطن وطهران بشكل مسبق.
يتمثّل الواقع القائم في أن غزّة تدفع الثمن. دفعت ثمن “طوفان الأقصى” وتدفع الآن ثمن الرد الإيراني على إسرائيل. في النهاية أزالت إسرائيل غزة من الوجود فيما العالم يتفرّج على وحشيتها وفيما تتصرّف “حماس” وكأنّها حققت انتصارا تريد البناء عليه.
ترفض الحركة أخذ العلم بما حلّ بغزّة وأهلها. انضمت “حماس”، التي يبدو مصير غزّة وأهلها همّها الأخير، إلى بعض العرب الذين هم على عداء مستمرّ مع الحقيقة. هؤلاء يرفضون التعلّم من تجارب الماضي القريب. هؤلاء مثل “حزب الله” الذي يعتبر الانتصار على لبنان بديلا من الانتصار على إسرائيل… كما حصل في مرحلة ما بعد انتهاء حرب صيف العام ألفين وستة. بالنسبة إلى “حماس” يبدو الانتصار على غزّة، في غياب القدرة على إعادة الحياة إلى “الإمارة الإسلامية” التي أقامتها فيها، بديلا من الانتصار على إسرائيل!
◄ الردّ الإيراني سبقته مفاوضات دارت بين "الشيطان الأكبر" الأميركي و"الجمهوريّة الإسلاميّة" من أجل جعل هذا الردّ من النوع الذي لا يستدعي تورطا أميركيا أو صداما مباشرا مع إيران
لا تستطيع الحركة الاعتراف بأنّها تسببت بتدمير القطاع وأنّ حجم الخراب الذي تعمّدت إسرائيل إلحاقه بغزّة يجعل منها أرضا طاردة لأهلها لسببين على الأقل. أولهما حجم الدمار الذي تعرّض له القطاع والأضرار البيئية التي لحقت به، والآخر غياب الرغبة في إعادة بناء غزّة. تبدو هذه الرغبة واضحة في غياب أي تصور لمرحلة ما بعد نهاية الحرب. لا يوجد طرف عربي أو غير عربي مستعد لإنفاق مليارات الدولارات في غياب مشروع واضح يتعلّق بمستقبل غزّة ومن يسيطر عليها.
في انتظار اليوم الذي تفيق فيه “حماس” على واقع غزّة وما أدّى إليه هجوم “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي، نشهد حاليا حربا إيرانيّة – إسرائيليّة ذات طابع معقد. لا يعرف العالم كيف التعاطي مع هذه الحرب التي طغت على حرب غزّة. وحدهم العرب الشرفاء ما زالوا يفكرون في غزّة وفي كيفية التوصّل إلى وقف لإطلاق النار يوقف الوحشية الإسرائيليّة ويسمح بالتفكير في وضع حد للكارثة التي حلّت بالغزاويين الذين يعاني قسم منهم من الجوع.
هربت إسرائيل من حرب غزّة إلى مكان آخر. استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق وقتلت المسؤولين عن منطقة الشرق الأوسط وما هو أوسع منها في “فيلق القدس” التابع لـ“الحرس الثوري” الإيراني. على رأس هؤلاء كان محمد رضا زاهدي الذي يعتبر المسؤول الأوّل في “فيلق القدس” عن ملفات سوريا ولبنان وربّما ملفات أخرى. وضع بنيامين نتنياهو إدارة جو بايدن في موقف حرج. لا تستطيع الإدارة الأميركيّة التخلي عن إسرائيل بعدما قررت إيران الرد، خصوصا أنّها استهدفت أراضي إسرائيليّة.
هربت إسرائيل إلى ضرب إيران مباشرة في دمشق وهربت إيران إلى حروب على هامش حرب غزّة انطلاقا من أراضيها ومن جنوب لبنان ومن اليمن. في الوقت ذاته، توفّر “حماس” كلّ ما يطلبه “بيبي” من أجل متابعة حربه على الغزاويين. في النهاية توجد ضحيّة وحيدة لـ“طوفان الأقصى” الذي تسبّب بحرب غزّة. هذه الضحيّة هي غزة نفسها وأهلها مع خوف دائم من امتداد هذه الحرب إلى الضفّة الغربيّة. أسوأ ما في الأمر أنّ كلّ الجهود المبذولة عربيّا من أجل وضع حدّ للمأساة لا تجد صدى في عالم غاب عنه المنطق والشعور الإنساني.
يظلّ أسوأ ما في الأمر أن لدى “حماس” حسابات خاصة بها. لا تعرف الحركة أنّها انتهت وأن لا مجال لعودة “الإمارة الإسلاميّة” التي أقامتها في غزة طوال سبعة عشر عاما قضت فيها كلّيا على كلّ مظهر حضاري في القطاع ووضعت نفسها في خدمة اليمين الإسرائيلي عبر الصواريخ التي كانت تطلقها بين حين وآخر. دعمت “حماس” موقف اليمين الإسرائيلي الذي كان ولا يزال يقول “إنّ لا وجود لطرف فلسطيني يمكن التفاوض معه”.
◄ في انتظار اليوم الذي تفيق فيه "حماس" على واقع غزّة وما أدّى إليه هجوم "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي، نشهد حاليا حربا إيرانيّة – إسرائيليّة ذات طابع معق
يعيش العالم على وقع الردّ الإيراني الذي استهدف إسرائيل من دون أن يستهدفها. سبقت الردّ مفاوضات دارت بين “الشيطان الأكبر” الأميركي و“الجمهوريّة الإسلاميّة” من أجل جعل هذا الردّ من النوع الذي لا يستدعي تورطا أميركيا أو صداما مباشرا مع إيران. يستفيد رئيس الحكومة الإسرائيلية من هذا الوضع. لا يسمح الوضع الداخلي الإسرائيلي في ظلّ التهديد الإيراني بأي تحرك ضدّه. يستفيد “بيبي” أيضا من التهديدات الإيرانيّة كي يتابع حربه على غزّة التي باتت ضمانة له من أجل البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة.
قبل تسعة عشر عاما انسحبت إسرائيل من غزّة، كان في الإمكان تحويل القطاع، الذي كان فيه مطار دولي في مرحلة معيّنة، إلى مكان معقول يظهر للعالم أن في استطاعة الفلسطينيين إقامة نواة لدولة فلسطينية ناجحة ومسالمة في الوقت ذاته. فشلت السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، بقيادة محمود عبّاس (أبومازن) في أن تكون في مستوى الحدث. ما لبثت أن رضخت للانقلاب الذي نفذته “حماس”، وهي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين. يدفع الغزاويون إلى يومنا هذا ثمن الانقلاب الذي نفذته “حماس” والذي كرّس الانقسام الفلسطيني. أكثر من ذلك، يدفع أهل غزّة ضريبة التفاهم الذي قام في الماضي بين “حماس” واليمين الإسرائيلي، وهو تفاهم في أساسه رفض الجانبين قيام دولة فلسطينيّة مستقلّة في يوم من الأيّام.
يظلّ الخوف الكبير، إلى اليوم، من أن ينسى العالم غزّة وأهلها في حال تطورت الحرب الإيرانيّة – الإسرائيليّة وأخذت المنطقة إلى مكان آخر، وفي حال استخدام إسرائيل أسلحة غير تقليديّة… وفي حال وجدت أميركا نفسها عاجزة عن إقناع “الجمهوريّة الإسلاميّة” بأن ثمة خطوطا لا يمكن أن تتجاوزها، بما في ذلك تعطيل الملاحة في مضيق هرمز، على سبيل المثال وليس الحصر!