ليس مستبعداً أن تكون بدأت ترتسم صورة يمن المستقبل، يمن ما بعد انتهاء حروبه القائمة منذ العام 2011، تاريخ بدء الانقلاب، وهو انقلاب على مراحل نفذه الإخوان المسلمون على نظام الراحل علي عبدالله صالح.
لم يعد الأمر مجرّد تنظير أيديولوجي وكلام لا أساس له. يعود ذلك إلى أنّه لا يمكن الاستخفاف بالتطور اليمني الأخير المتمثل في الإعلان، من الرياض، عن قيام «مجلس حضرموت الوطني».
لدى التمعن في البيان الصادر عن المجلس، نراه يتحدّث عن التوصّل إلى «الوثيقة السياسية التي تنادي بحق أبناء حضرموت (شرق اليمن) في إدارة شؤونهم المالية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية السياسية والثقافية والأمنية»، إضافة إلى تبني «التعددية السياسية والاجتماعية في حضرموت».
يبدو لافتاً تطرّق الوثيقة السياسيّة إلى كلّ ما من شأنه إدارة شؤون الدولة، أي دولة مستقلة أو «كيان جديد»، بدءاً بالمال والاقتصاد وصولاً إلى «الشؤون العسكرية والأمنيّة».
وردت عبارة «الكيان الجديد» في الكلام الصادر عن الناطق باسم المجلس.
يشير مثل هذا التطوّر، الذي تلته زيارة قام بها رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي للمكلا، إلى أن هناك ميلاً إلى صيغة جديدة مرتبطة بما يدور من تطورات في الجنوب اليمني... وفي محافظة حضرموت نفسها ذات التاريخ العريق.تمثل حضرموت نسبة 36 في المئة من مساحة اليمن. لم يتطرّق البيان الذي أعلن فيه عن قيام «مجلس حضرموت الوطني» صراحة إلى قيام دولة مستقلّة في هذا الجزء من البلد. لكنّ القراءة بين السطور كافية للخروج باستنتاج فحواه أنّ هناك مثل هذا التوجّه في المدى البعيد.
قد يصحّ الكلام عن صيغة كونفيديرالية لليمن مستقبلاً مع علاقة خاصة بين حضرموت والاقليم.لم يخف الإعلان عن قيام «مجلس حضرموت الوطني» وجود دعم اقليمي للفكرة التي انطلقت من الرياض بالتنسيق مع «الشرعيّة» ممثلة برئيس مجلس القيادة الرئاسي.
استتبعت المملكة قيام «مجلس حضرموت» بمساعدة سخيّة لتلك المحافظة مع تركيز على مشاريع معيّنة تنفّذ فيها بمساعدة سعوديّة.
يظهر أنّ هناك صيغاً مطروحة لمستقبل اليمن. تختلف هذه الصيغ بين محافظة وأخرى.
بالنسبة إلى المهرة مثلاً، لا يمكن إلّا التفكير برابط بينها وبين سلطنة عمان التي تقع على حدودها، فضلاً عن وجود علاقة عشائرية بين أهلها من جهة والعُمانيين، في الجانب الآخر من الحدود، من جهة أخرى.
ليس سرّاً أن سلطنة عُمان تتولى منذ أعوام عدّة تقديم خدمات لأهالي المهرة. ليس سرّاً أيضاً تجنيس يمنيين من المهرة في السلطنة.
يشجّع على الكلام عن دولة كونفيديرالية في اليمن، غياب ما يشير إلى إمكان إزالة الكيان الحوثي التابع لإيران في صنعاء ومحيطها، بما في ذلك محافظات صعدة وحجة وذمار والجوف والحديدة وإب والبيضاء.
لم يعد ينقص اكتمال هذا الكيان سوى استيلاء الحوثيين على مدينة مأرب وعلى الثروات التي في المحافظة.
لم يعد سرّاً، أيضاً، أن العودة إلى صيغة الدولتين في اليمن، صيغة ما قبل الوحدة في مايو 1990، لم تعد واردة.
لو كان ذلك ممكناً، لما تبيّن أنّ عدن أقرب إلى تعز مما هي من حضرموت، كذلك المحافظات الجنوبيّة الأخرى مثل لحج وأبين... فيما تبقى شبوة، الغنيّة بالنفط والغاز، والقريبة من حضرموت ومأرب بمثابة المحافظة الحائرة التي تحتاج إلى من يقرّر لها مصيرها، مع ترجيح الارتباط بينها وبين حضرموت مستقبلاً.
يبدو «مجلس حضرموت الوطني» تجربة تستأهل التوقف عندها في وقت تزداد الهوة بين «الشرعيّة» و «المجلس الانتقالي» الذي يطالب، من عدن، باستقلال الجنوب.
يتبيّن كلّ يوم أن «الشرعيّة» ما زالت، على الرغم من التخلّص من عبد ربّه منصور هادي، تبحث عن دور.
من بين ما يجعلها تستمرّ في البحث عن دور عجزها عن تقديم أقلّ الخدمات العادية للمواطن العادي في أي منطقة تسيطر عليها. الأهمّ من ذلك كلّه أنّها لا تستطيع ممارسة أيّ ضغوط على الحوثيين في أي مجال من المجالات، خصوصاً المجال العسكري في ظلّ توازن القوى القائم من جهة ورفع الحوثيين سقف مطالبهم من جهة أخرى، خصوصاً أنّهم يسعون إلى الحصول على جزء من عائدات النفط والغاز.
مع طيّ صفحة الوحدة اليمنيّة في ضوء غياب دور المركز الذي كان اسمه صنعاء وعدم قدرة عدن على الحلول مكانه، يمرّ البلد في مرحلة مخاض.
تؤكّد ولادة «مجلس حضرموت الوطني»، وجود توجهات معيّنة لدى الحضارمة. لا يفتخر الحضارمة فقط بوجودهم كقوّة اقتصادية ومالية في السعودية ودول الخليج الأخرى، وإن بدرجة أقلّ. هؤلاء يفتخرون أيضاً بالدور الذي لعبوه خارج المحافظة على كلّ المستويات، بما في ذلك نشر الإسلام في دول جنوب شرقي آسيا. بين هذه الدول إندونيسيا وسنغافورة وماليزيا...
ليس معروفاً متى تنضج فكرة الكونفيديرالية في اليمن. لكن الثابت أنّه بدأ الإعداد لمرحلة ما بعد انتهاء الحروب الداخليّة اليمنيّة. لا يمنع ذلك من طرح أسئلة من بينها هل سيطرة الحوثيين على معظم المحافظات الشماليّة صار واقعاً؟ هل قضوا نهائياً على التركيبة القبليّة في الشمال واستبدلوها بتركيبة أخرى تلائم فكرهم المستورد من إيران؟
في النهاية، يظلّ للإعلان عن «مجلس حضرموت الوطني» مجرّد مقدّمة، مقدّمة لمرحلة يمنية، لم ترتسم ملامحها بوضوح بعد. لا يمكن تجاهل وجود كلّ المقومات التي تسمح لحضرموت بأن تكون دولة مستقلّة. لديها كلّ مقومات الدولة المستقلّة. في مرحلة معيّنة كانت فيها سلطتان إحداهما في داخل المحافظة وأخرى ساحلية (الكثيري والقعيطي)... وفي مرحلة معيّنة كانت الدولة الكثيرية، التي تأسست في 1379 دولة مستقلة تمتلك عملتها!