يعطي ذهاب رجال دين مسيحيين إلى معلم مليتا في جنوب لبنان، وهو معلم أقامه «حزب الله» لتمجيد «تحرير» الشريط الحدودي الذي كانت تحتلّه إسرائيل، فكرة عن رؤية ايران لمستقبل لبنان. من مليتا، يمكن تصوّر الوضع المسيحي في بلد، اسمه لبنان، واقع تحت الاحتلال الإيراني.
في لبنان، كما يريده «حزب الله» والذي كشفته زيارة رجال الدين المسيحيين لمليتا، يعيش المسيحيون في حماية الحزب ورعايته.
هذا هو التصوّر الإيراني للبنان. ينفذ المسيحيون المطلوب منهم تنفيذه كمواطنين من الدرجة الثانية، تماماً كما حال مسيحيي ايران والعراق وسورية حيث لا حقوق تذكر لهم باستثناء تمتعهم بالحماية الأمنيّة... بالكاد.
لم يعد من وجود مسيحي يذكر في ايران. إذا استثنينا الأرمن الذين وجدت لهم وظيفة معيّنة في خدمة النظام، لا يمكن الحديث عن أي أقليّة ذات شأن في ايران، بما في ذلك عرب الأحواز.
الغي الوجود المسيحي في العراق حيث وجود قديم للكنيسة. عبّرت عن هذا الوجود زيارة البابا فرنسيس الأخيرة للبلد قبل نحو عامين.
كذلك الأمر في سورية حيث يستعين النظام ببعض المسيحيين كواجهة له لا اكثر، بمن في ذلك البطريرك الأرثوذكسي (بطريرك انطاكية وسائر المشرق) وبعض المطارنة.
منذ أيّام حافظ الأسد، وظّف النظام المسيحيين في خدمة مشروعه القائم على تحالف الأقلّيات، من مسيحيين ودروز واسماعيليين وشركس وتركمان، بقيادة الطائفة العلوية التي احكمت سيطرتها على الجيش والأجهزة الأمنية والاقتصاد بمرافقه المختلفة.
نجح النظام في ذلك، بشكل تدريجي، على مدى نحو ستين عاماً. منذ 23 فبراير 1966، تحديداً، بعد الانقلاب الذي نفّذه الضباط البعثيون الثلاثة (محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد) الذين صدَفَ أنّهم علويون!
تختزل خطابات المديح بـ«المقاومة»، الصادرة عن رجال دين مسيحيين لا يخجلون من التزلّف، مستقبل الأيّام التي يبدو لبنان مقبلاً عليها.
يبدو مقبلاً على مثل هذه الأيام السود في حال بقيت موازين القوى الإقليميّة على حالها، وهي حال ليس ما يشير إلى أنّها ستتغيّر، خصوصاً في ظلّ استمرار هجرة المسيحيين من لبنان وتدمير مؤسساته الواحدة تلو الأخرى.
إنّها هجرة لعب، بلغة الأرقام، الرئيس السابق ميشال عون دوراً أساسياً في الدفع في اتجاهها في المرّتين اللتين اقام فيهما في قصر بعبدا.
ليست زيارة معلم مليتا لرجال دين مسيحيين، في الذكرى الـ23 لانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، سوى امتداد للوثيقة التي وقّعها عون مع الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله في 6 فبراير 2006 وهي الوثيقة التي أوصلت عون مع صهره جبران باسيل إلى قصر بعبدا في 31 أكتوبر 2016.
خضع عون وباسيل في مرحلة ما بعد توقيع وثيقة مار مخايل في 2006، وحتّى قبلها، لكلّ أنواع الاختبارات.
نجحا في كلّ منها نجاحاً منقطع النظير. كانا يستاهلان أن يكونا في عداد رجال الدين الذين ذهبوا إلى مليتا، فيما البطريركية المارونيّة تتفرّج على عملية تسخيف الوجود المسيحي في لبنان بدل اتخاذ موقف واضح من الزيارة التي ترمز إلى تملّق ليس بعده تملّق وإذلال ليس بعده إذلال... وذمّية ليس بعدها ذمّية.
اثبتت الزيارة لمليتا أن على كلّ مسيحي يريد العيش في المناطق التي تحت السيطرة المباشرة لـ«حزب الله» أن يكون ذمّياً. لا مجال امامه، من اجل الحصول على الحماية والأمان، سوى أن يكون مجرّد بوق للحزب و«المقاومة» و«الممانعة».
كان طبيعياً أن يكون معظم رجال الدين الذين ذهبوا إلى مليتا من الجنوب والبقاع حيث تسهل توجيه تهمة العمالة لإسرائيل إلى أي مواطن يرفض الانصياع لمشيئة الحزب وتعليماته... والتصفيق لتدميره مؤسسات الدولة اللبنانية.
ليست زيارة مليتا سوى امتداد لوثيقة مار مخايل ولانتخاب عون رئيساً للجمهوريّة وللفراغ الرئاسي الذي يعاني منه لبنان منذ سبعة اشهر بسبب إصرار «حزب الله» على أن يكون مرشّحه رئيساً للجمهوريّة.
شاءت «الجمهوريّة الإسلاميّة» في ايران، مرّة أخرى، تأكيد أن الاتفاق الذي وقعته مع المملكة العربيّة السعوديّة برعاية الصين لا يشمل سوى العلاقات بين المملكة و«الجمهوريّة الإسلاميّة».
في المفهوم الإيراني، لا يشمل الاتفاق الذي وردت فيه عبارة «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى» سوى الطرفين الموقعين له.
بالنسبة إلى لبنان، بالذات، لا تتحكّم ايران بمفاصل السلطة في البلد ولا تكتفي، في تحدّ واضح للجيش، بتنفيذ مناورة عسكريّة في الجنوب اللبناني في منطقة تقع في قضاء جزين فحسب، بل إنّها ترسم أيضاً مستقبل لبنان.
لم يعد ممكناً تصوّر مستقبل لبنان من خلال دور مسيحي وازن فيه، خصوصاً في ظلّ حال الضياع والفراغ والإحباط التي بات يعاني منها أهل السنّة، فيما يبحث الدروز عن حماية لوجودهم المهمّ في الجبل ومناطق اخرى.
كيف يقبل رجال دين مسيحيون القيام بما قاموا به في مليتا متجاهلين دور «حزب الله»، منذ تأسيسه في تدمير مؤسسات الدولة وطرد المسيحيين من بيروت الغربيّة على مراحل بغية الحلول مكانهم، أكان ذلك في المصيطبة والمزرعة وزقاق البلاط ورأس بيروت واحياء أخرى، مثل القنطاري، كانت في الماضي القريب مناطق مختلطة؟
لا يمكن في طبيعة الحال حصر الموضوع بالمسيحيين، خصوصاً في ضوء ما تعرّض له السنّة والدروز في مناطق معيّنة، في بيروت نفسها وفي الشويفات، على سبيل المثال وليس الحصر.
لكنّ الواضح أنّ زيارة رجال دين مسيحيين لمليتا تعطي فكرة عن حال الترهّل والخنوع التي يعاني منها الوجود المسيحي في ظلّ إصرار لدى ايران على أن تكون الطرف الذي يحدّد مَن هو الماروني الذي سيكون في قصر بعبدا.
تعكس زيارة مليتا، إلى حدّ كبير، حاضر المسيحيين في لبنان ومستقبلهم. تعكس أيضاً حال التخلي العربي والأوروبي والأميركي عن لبنان الذي يفقد يومياً المزيد من مقومات وجوده... من بينها الوجود المسيحي الوازن فيه.