لا يمكن الاستخفاف بمجموعة «بريكس»، لكنّ لا يمكن في الوقت ذاته المبالغة بما تمثّله وبطموحها إلى قيام تكتل يواجه الولايات المتحدة والدول الصناعيّة السبع (G7)... وصولاً إلى الاستغناء عن الدولار ودوره في المبادلات الدولية، كما يريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
في الوقت الذي انعقدت فيه قمة «بريكس» في جوهانسبورغ، كان بوتين منهمكا بالفعل في ترتيب اموره الداخليّة بدءا بالتخلص من زعيم «فاغنر» يفغيني بريغوجين الذي سبب له ازعاجات، لا يستهان بها، منذ تمرّده الأخير.
لا مكان لـ«بريكس» في مجال السعي إلى قيام نظام عالمي جديد، سوى ضمن حدود معيّنة. فشلت في الماضي كلّ المحاولات التي بذلت من أجل تحقيق هذا الهدف. ستفشل مجموعة «بريكس» في أن تكون قطباً عالمياً لأن ليس ما يربط في العمق بين أعضائها. لكلّ عضو من الأعضاء الخمسة مشاكل واهتمامات خاصة به.
التقى قادة الدول المنضوية في مجموعة «بريكس» في جوهانسبورغ، في وقت تسعى الرابطة التي تجمع بين كبرى الاقتصادات الناشئة إلى تعزيز حضورها كقوة تواجه الهيمنة الغربية على الشؤون الدولية. لم تقتصر القمّة على الدول الأعضاء في «بريكس». حضرت دول أخرى عدة تودّ الانضمام إلى المجموعة التي تضمّ في الوقت الحاضر كلّا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. تمثل هذه الدول الخمس ربع الاقتصاد العالمي وأربعين في المئة من سكان الكرة الأرضيّة.
استضاف رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامابوزا نظيره الصيني شي جينبينغ ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا إلى جانب نحو 50 زعيما أو مسؤولا آخرين.
لم يحضر بوتين المستهدف بمذكرة توقيف دولية على خلفية الاشتباه بارتكابه جرائم حرب في أوكرانيا. أوفد وزير الخارجية سيرغي لافروف ممثلاً له.
قال رامابوزا، مستخدماً لغة خشبية، لدى استقباله الرئيس الصيني: «اليوم كأصدقاء وشركاء في بريكس، نقف معا في هدفنا المشترك وسعينا إلى قيام عالم أفضل وأكثر إنصافا يطلق العنان لإمكانات جميع سكان العالم».
ردّ شي جينبينغ بلغة أكثر خشبية بقوله: «فيما نقف عند نقطة انطلاق تاريخية جديدة، فإن إرث الصداقة وتعميق التعاون وتعزيز التنسيق هي الطموحات المشتركة للبلدين، كما تمثل المهمات الرئيسية التي أوكلها إلينا الزمن».
تمتلك الدول الأعضاء في «بريكس» ميزات عدة. لكنّ ثمّة تباينات بينها على مستوى النمو الاقتصادي. كذلك، هناك خلافات في شأن الرغبة في التوصل إلى نظام عالمي ترى أنه يعكس مصالحها بشكل أفضل ويعزز نفوذها.
الأهمّ من ذلك كلّه، أنّ الدولار لن يكون لقمة سائغة امام «بريكس»، كما يتصوّر فلاديمير بوتين الذي لم يتعلّم من تجارب الاتحاد السوفياتي الذي سعى مرارا إلى إقامة نظام عالمي جديد... وانتهى به الأمر إلى الإنهيار.
لنضع روسيا جانباً، روسيا المنشغلة بترتيب أوضاعها الداخليّة في ضوء هزيمتها في أوكرانيا.
لنأخذ الصين، العضو الأبرز في «بريكس». تواجه الصين، ثاني اكبر اقتصاد في العالم، مشاكل كبيرة. استطاعت تحقيق خطوات عملاقة إلى امام منذ ثمانينات القرن الماضي. لكنّ ما لم تستطع تحقيقه هو التحوّل إلى دولة ذات مؤسسات ديموقراطيّة وليس دولة يحكمها حزب شيوعي تأقلم مع التغييرات التي يشهدها العالم والداخل الصيني... من دون أن يتأقلم معها كلّيا.
يعاني الاقتصاد الصيني في المرحلة الراهنة من أزمة بالغة الخطورة والعمق يعبّر عنها انهيار القطاع العقاري. مئات آلاف الشقق بنيت في انحاء مختلفة من الصين لا تجد من يشغلها في بلد بدأ يشكو من مشكلة تقدّم مواطنيه بالعمر، على غرار ما هو حاصل في روسيا. بات الاقتصاد الصيني عاجزاً عن تطوير نفسه. استطاع تطوير نظام الحزب الواحد، لكنه عجز عن تطوير الاقتصاد بعد بلوغ مرحلة معيّنة من النموّ.
لدى البرازيل وضع خاص بها. ليس الاقتصاد البرازيلي، في ظلّ المشاكل والتعقيدات الداخليّة والفروقات الاجتماعيّة، في وضع يسمح للرئيس لولا ايناسيو دا سيلفا بممارسة أي دور باستثناء التنظير والكلام عن العدالة الاجتماعية.
لا حاجة إلى الكلام طويلاً عن الهند والهوة بين طبقات المجتمع فيها ونهجها الخاص والتناقضات بينها وبين الصين وعلاقتها بالغرب عموماً واليابان على وجه التحديد. قبل اشهر قليلة، قامت الهند بمناورات جوّية مع اليابان. كانت المناورات المشتركة موجهة إلى المشروع التوسعي الصيني في جنوب شرقي آسيا.
يبقى أن جنوب افريقيا هي آخر دولة يحق لها الكلام عن نظام عالمي جديد، خصوصاً أنّ علاقتها بـ«الجمهوريّة الإسلاميّة» في ايران معروفة، إضافة إلى سياستها الأفريقية التي تنم عن جهل ليس بعده جهل بالاستقرار في القارة السمراء ومكافحة الإرهاب فيها.
يظهر ذلك بوضوح من العداء للمغرب والوقوف إلى جانب الجزائر التي تشن حرب استنزاف منذ العام 1975 على جارها العربي بواسطة أداة اسمها جبهة «بوليساريو».
كيف يمكن للعالم أن يأخذ على مأخذ الجد دولة تشارك بطريقة مباشرة في حرب على دولة أخرى بسبب قضيّة مفتعلة من الفها إلى يائها؟ في النهاية، فشلت جنوب أفريقيا، على الرغم من انحيازها للنظام الجزائري، في ضمّ الجزائر إلى «بريكس» في ما يمكن اعتباره ضربة قويّة لنظام في حال عداء مع شعبه!
مرّة أخرى، لا يجوز الاستخفاف بالثقل الذي تمثله الدول الخمس الأعضاء في مجموعة «بريكس». لكنّ الاعتراف بهذا الثقل لا يعني قدرة هذه المجموعة على إقامة نظام عالمي جديد.
إنّ كلّ دولة من الدول الخمس في «بريكس» تغنّي على ليلاها. لا علاقة لحسابات الصين التي تحاول استخدام «بريكس» للتصدي للولايات المتحدة بحسابات الهند التي تطوّر نفسها بمعزل عن الآخرين والتي استطاعت أن تكون الدولة الأولى في العالم التي ترسل بنجاح مركبة إلى القطب الجنوبي من القمر.
نجحت الهند حيث فشلت روسيا التي تريد تغيير العالم في وقت تشنّ حرباً على دولة أخرى هي أوكرانيا!