سبق لرئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان أن التقى بنيامين نتنياهو في أوغندا في العام 2020. كان «بيبي» وقتذاك رئيساً للحكومة الإسرائيلية. اندرج اللقاء في سياق أجواء عربية عامة وقعت خلالها اتفاقات أبراهام بين إسرائيل ودول عربيّة عدة.
منذ إطاحة نظام عمر حسن البشير في العام 2019، سار السودان في خطين متوازيين. الأوّل محاولة ترتيب أوضاعه الداخلية عبر إيجاد صيغة تفاهم بين العسكر والمدنيين والآخر التطبيع مع إسرائيل.
يندرج التطبيع في إطار أوسع يتمثل في عودة السودان إلى بلد طبيعي يقيم علاقات طيبة مع الولايات المتحدة بدل أن يكون بلداً منبوذاً ومتذبذباً كما كانت عليه الحال في عهد البشير الذي امتد طوال ثلاثة عقود كاملة.
مارس البشير، من أجل البقاء في السلطة، كلّ أنواع الألاعيب. احتضن الإرهابي «كارلوس» في مرحلة معيّنة ثمّ سلّمه إلى فرنسا.
وفّر مأوى لإرهابي آخر هو أسامة بن لادن، أحد مؤسسي تنظيم «القاعدة»، قبل أن يبعده إلى أفغانستان ليعيش في ظلّ «طالبان» ويخطّط منها لـ«غزوتي نيويورك وواشنطن» في العام 2001.
من أجل البقاء في السلطة أيضا لم يفعل البشير شيئاً من أجل الحؤول دون تقسيم السودان بعدما عجز عن التعاطي بطريقة طبيعيّة مع الجنوب وإقامة نظام بعيد عن العقد التي تتحكّم بتنظيم الإخوان المسلمين وما تفرّع عنه من تنظيمات لا تقلّ تخلفا عنه.
مع عودة «بيبي» إلى موقع رئيس الحكومة في إسرائيل، ذهب إيلي كوهين وزير الخارجية في حكومته إلى الخرطوم.
تستهدف الزيارة في ما يبدو وضع اللمسات الأخيرة على عملية تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل في وقت يبذل البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوة التدخل السريع، جهوداً من إيجاد صيغة تفاهم تؤدي إلى تشكيل حكومة مدنيّة بعيداً عن مزايدات عدد لا بأس به من السياسيين التقليديين.
هؤلاء يجهلون أنّ العسكر في السودان لعبوا دوراً مهمّاً منذ استقلال البلد في العام 1956 وأنّ دور هؤلاء ما كان ممكنا لولا فشل الأحزاب السودانيّة، كلّ الأحزاب، في كلّ مرّة أتيحت لها فرصة تشكيل حكومة تنهض بالبلد وتؤسس لنظام ديموقراطي حقيقي.
في النهاية، لا يمكن تجاهل أن فشل المدنيين، مباشرة بعد الاستقلال، كان وراء تولي العسكري إبراهيم عبود السلطة في العام 1958، قبل أن ينقلب عليه الشارع في العام 1964 ويعيد العسكر إلى ثكناتهم.
وقتذاك، رفع المتظاهرون شعاراً في غاية البساطة هو «إلى الثكنات يا حشرات».
كان ذلك كافيا كي يسقط النظام العسكري ويقوم نظام مدني ما لبث سقط في العام 1969 على يد مجموعة عسكرية قادها جعفر نميري.
في النهاية أيضاً، ما كان لنظام عمر حسن البشير، بتركته الثقيلة، أن يرحل لولا مجموعة من العسكريين انقلبت عليه بعدما أظهر السودانيون تصميماً على مواجهته والبقاء في الشارع.
البشير موجود حالياً في السجن، أي في المكان الذي يستحقه بعدما استنفد كلّ أوراقه، بما في ذلك لعب الورقة التركيّة أحيانا والورقة الإيرانيّة في أحيان أخرى.
من يتذكر أن السودان كان ممراً لأسلحة مصدرها إيران يجري تفريغها في أحد موانئه ثم نقلها إلى قطاع غزّة كي تستخدمها «حماس».
لم يكن ممكناً تفادي ارتكاب البشير لمزيد من الحماقات لولا القرار الذي اتخذته مجموعة من الضباط قررت الانتهاء منه.
تغيّر العالم كثيراً. ثمّة حاجة في كلّ وقت إلى من يتخذ المبادرة في السودان.
يعرف العسكريون، في مقدّمهم عبدالفتاح البرهان أنّ رفع السودان عن قائمة الإرهاب لم يكن ممكنا من دون انفتاح على إسرائيل.
هذا واقع لا يمكن تجاهله في ظلّ التوازنات الإقليميّة والدوليّة وفي ظلّ حاجة السودان إلى إعادة تأهيل نفسه على كلّ المستويات.
كانت زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للخرطوم مفاجأة، خصوصاً أنّها جاءت في ظلّ توتر غير مسبوق بين إسرائيل والفلسطينيين في الضفّة الغربيّة. يعني ذلك أنّ السودان الذي يواجه تحديات كبيرة لا يفكّر حالياً سوى في حماية مصالحه بعيدا عمّا يدور في الضفّة الغربيّة أو قطاع غزة. لدى السودان أولوياته التي لا علاقة لها بفلسطين.
كان طبيعياً لجوء منظمات فلسطينيّة، لم تعد من قيمة تذكر لها، من نوع «الجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين»، وهي منظمة ما زالت تعيش من سرقة مصرف في بيروت في العام 1976، إلى التنديد بالخطوة السودانيّة.
يعكس مثل هذا التنديد الصادر عن منظمات فلسطينيّة جهلاً ليس بعده جهل وقلة أخلاق لا مثيل لها.
ترفض هذه المنظمات الاعتراف بما ارتكبه النظام السوري الذي تعيش في كنفه في حقّ الفلسطينيين. ترفض حتّى الاعتراف بما فعله النظام السوري بسكان مخيّم اليرموك الفلسطيني القريب من دمشق في تاريخ لم يمرّ عليه الزمن.
قد لا يكون توقيت زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للسودان موفقاً، لكنّ ما لا مفرّ من الاعتراف به أن الزيارة كانت ذات طابع ملحّ فرضته، على الأرجح، حاجة السودان إلى إعادة ترتيب أوضاعه الداخليّة من جهة وإيجاد موقع له كدولة مطلّة على البحر الأحمر من جهة أخرى.
من لاءات قمة الخرطوم (لا صلح، لا اعتراف لا مفاوضات)، في العام 1967، إلى زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للعاصمة السودانيّة في العام 2023 مسافة طويلة، مسافة تكشف طبيعة التحولات في المنطقة والعالم.
كلّ ما في الأمر أن السودان ما زال يبحث عن مكان لنفسه في ظلّ هذه التحولات التي بدأت بزيارة رئيس مصر أنور السادات للقدس وخطابه في الكنيست في نوفمبر 1977. ذهب السادات إلى القدس بسبب أولويات مصريّة. أتى وزير الخارجيّة الإسرائيلي إلى الخرطوم بسبب أولويات سودانيّة!