يجمع بين تركيا وإيران هذه الأيّام السعي إلى تنفيس الاحتقان الداخلي في البلدين عن طريق توجيه اللوم إلى الأكراد. يستخدم الطرفان الأكراد ككبش محرقة في حين أن مشكلة تركيا، كما مشكلة إيران في مكان آخر.
تضرب تركيا الأكراد في شمال سوريا وتهدّد بعملية عسكريّة كبيرة وتلوّح في الوقت ذاته بمصالحة مع النظام في دمشق. أمّا “الجمهوريّة الإسلاميّة”، فهي تروّج لنظريّة أن الأكراد وراء كلّ مشاكلها الداخلية والأزمات التي تعاني منها. يقصف “الحرس الثوري” مناطق كرديّة في العراق بحجة أنّ معارضين إيرانيين أقاموا قواعد في هذه المناطق. يشير ذلك إلى رغبة واضحة لدى النظام الإيراني في تجاهل الواقع. يقول الواقع إن الشعوب الإيرانيّة كلها، وليس الأكراد وحدهم، انتفضت في وجه نظام ليس لديه ما يفعله سوى نشر البؤس والتخلف وتشجيع قيام ميليشيات مذهبيّة خارج حدوده.
يبدو واضحا أنّ الرئيس رجب طيب أردوغان في حيرة من أمره في ضوء تدهور الاقتصاد التركي قبل أشهر من انتخابات عامة غير مضمونة النتائج بالنسبة إليه أو إلى حزبه ذي الميول الإسلاميّة. يظنّ أردوغان أنّ عملية عسكريّة في سوريا ومجرّد تغيير توجهات السياسة الخارجيّة التركيّة سيؤديان إلى تحسن الاقتصاد.
يمكن لمثل هذا التفكير أن يعطي بعض النتائج الإيجابيّة، لكن يبقى في الأساس أن تركيا، في عهد أردوغان، لم تستطع اعتماد سياسة ثابتة في شأن أي موضوع. لا يدلّ على ذلك أكثر من التذبذب التركي حيال ما شهدته سوريا منذ اندلاع الثورة الشعبيّة في وجه النظام الأقلّوي المدعوم من “الجمهوريّة الإسلاميّة” وميليشياتها ومن فلاديمير بوتين. فوتت تركيا كلّ الفرص التي أتيحت لها منذ العام 2011 من أجل المساهمة في إحداث تغيير ذي طابع إيجابي يصبّ في مصلحة الشعب السوري. كانت الطرف الوحيد المهيّأ للعب هذا الدور في بداية الثورة السوريّة، لكنّها فضلت المماطلة والدخول في حسابات مرتبطة بالطموحات الشخصيّة لرجب طيب أردوغان من جهة وميوله المؤيدة لتنظيم الإخوان المسلمين من جهة أخرى.
تعكس السياسات التي يتبعها الرئيس التركي حالا من الضياع. في النهاية، مشكلته في سوريا ليست مع الأكراد بمقدار ما هي في غياب سياسة ثابتة. لم تصب هذه السياسة التي اتبعها أردوغان لا في خدمة تركيا ولا في خدمة الشعب السوري الذي اعتقد أنّ لديه حليفا صلبا يستطيع الاعتماد عليه ولا يرضخ للابتزاز الإيراني والروسي. تراجع أردوغان أمام روسيا بعد أول اشتباك جوي معها. انتقل بعد ذلك إلى عقد صفقات مع فلاديمير بوتين. دفع السوريون، خصوصا في حلب والمناطق المحيطة بها، غاليا ثمن تلك الصفقات التي جعلت من تركيا حليفا من النوع الذي لا يمكن الاعتماد عليه.
تبقى السياسة التي اتبعها أردوغان تجاه إسرائيل فضيحة في حدّ ذاتها. أراد في البداية تقليد “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران في مجال المتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة. حاول المشاركة في فك الحصار عن قطاع غزّة. كانت محاولة ذات طابع فولكلوري انتهت بكارثة وباستدارة كاملة أعادت تركيا إلى الحضن الإسرائيلي الدافئ.
تكمن مشكلة أردوغان مع أكراد تركيا قبل أكراد سوريا والعراق. لا يمكن الهرب من هذه المشكلة بالذهاب إلى ما وراء الحدود. ما ينطبق على الرئيس التركي ينطبق أيضا على النظام الإيراني الذي يرفض الاعتراف بأن مشكلته مع الشعوب الإيرانيّة كلّها وليست مع حرية المرأة في وضع الحجاب أو عدم وضعه. كانت المباراة بين إيران وإنجلترا في إطار دورة كأس العالم لكرة القدم في الدوحة تعبيرا صادقا عن الحال الإيرانيّة. لم يكتف اللاعبون الإيرانيون برفض ترديد كلمات النشيد الوطني أثناء عزفه، بل بدا واضحا أنّ لا حماسة لديهم للعب في مستوى يليق بإيران الحقيقيّة وليس إيران النظام القائم.
في تركيا وإيران، ليس الهرب إلى الخارج وإلقاء اللوم على الأكراد حلا لأي مشكلة. المشكلة الحقيقيّة في نظامين يرفضان التركيز على الداخل وعلى ما تعاني منه الشعوب الموجودة في البلدين.
لا يقول رجب طيب أردوغان لماذا فشلت السياسة التركية في سوريا. لا يقول لماذا كان كلّ ذلك العداء لمصر وشعبها ولماذا ذلك الإصرار على رعاية الإخوان المسلمين الذين كان هدفهم القضاء على مصر. لا يقول لماذا صار في استطاعته الآن مصافحة الرئيس عبدالفتاح السيسي على هامش افتتاح كأس العالم في قطر. لا يقول لماذا كل هذا العداء لدولة مسالمة مثل اليونان. لا يقول أخيرا ما الحلّ في سوريا في غياب رؤية شاملة للوضع فيها وبعدما صار البلد يعيش في ظلّ خمسة احتلالات…
لا تعترف “الجمهوريّة الإسلاميّة” بأن مشكلتها مع الشعوب الإيرانية، بما في ذلك الأذريون، الذين منهم “المرشد” علي خامنئي. لا تعترف بأنّ الميليشيات التي أقامتها وموّلتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن لن تفيدها في شيء ما دام النظام فيها غير متصالح مع نفسه أوّلا ومع الشعوب الإيرانية المختلفة قبل أي شيء آخر. من يقيم مثل هذا النوع من الميليشيات المذهبية إنّما يستثمر في الدمار والخراب والبؤس ولا شيء آخر.
لا شكّ أن الأكراد ليسوا قديسين وقد ارتكبوا أخطاء كثيرة. لكنّ الأكيد أنّهم ظلموا كثيرا في الماضي وأنّ المطلوب معالجة كيفية التعاطي معهم في سياق مختلف بعيدا عن العنف والعزل وتوجيه الاتهامات. لن يفيد النظام الإيراني الهرب في اتجاه معاقبة الأكراد على جرم لم يرتكبوه. ولن يفيد رجب طيب أردوغان تحميل أكراد سوريا مسؤولية انفجار ذي طابع إرهابي في إسطنبول. الهرب في اتجاه الأكراد ليس علاجا، بل هو تعامٍ عن الأزمة العميقة التي يتخبط فيها رجب طيب أردوغان والأزمات التي يعاني منها النظام الإيراني الذي لم يفعل منذ قيامه سوى الهرب إلى خارج حدوده بدءا بدخوله حربا مع العراق استمرت ثماني سنوات بين 1980 و1988!