«انه الاقتصاد يا غبيّ». لعبت هذه العبارة التي جرى تداولها في اثناء الحملة الانتخابية التي تواجه فيها جورج بوش الأب وبيل كلينتون في خريف العام 1992 دوراً أساسياً في انتصار كلينتون، وفشل بوش الأب في الحصول على ولاية ثانية.
حقّقت إدارة بوش الأب، التي أخرجت الجيش العراقي من الكويت ولم ترتكب حماقة احتلال العراق، كلّ الإنجازات التي يمكن تحقيقها على صعيد السياسة الخارجية في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة. لم يمنع ذلك الرسوب المدوي لبوش الأب في انتخابات الرئاسة بسبب تراجع الوضع الاقتصادي قبل أي شيء آخر.
استطاع رجب طيّب أردوغان الفوز في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة في 14 و28 مايو الماضي، على الرغم من تدهور الاقتصاد التركي الذي يتحمّل مسؤوليته شخصياً. لم ينجح أردوغان منذ الدورة الأولى. جعله ذلك يفكّر ملياً في الأسباب التي حالت دون ذلك. اكتشف أخيراً أنّ تركيا لا تستطيع العيش من دون رضا الولايات المتحدة عنها.
هذا ما يفسّر عودة أردوغان إلى الحظيرة الأميركيّة. حصل ذلك بعد أخذ ورد طويلين وممارسة الاعيب معيّنة وبعدما تبيّن له أن الشروط التي يضعها، بما في ذلك الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لن تأخذه إلى أي مكان.
في النهاية، رفع الرئيس التركي الفيتو عن انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي. كلّ ما فعله الرئيس التركي لإظهار أنّه ليس مستعداً للرضوخ كلّياً لما يطلبه منه الغرب أن اكّد أن الموافقة التركيّة لن تكون قبل أكتوبر المقبل.
برّر ذلك بعطلة النواب التي تستمرّ شهرين من جهة والحاجة إلى مناقشة الطلب السويدي من جهة أخرى.
المهمّ موافقة تركيا على انضمام السويد إلى الحلف الأطلسي (الناتو). كلّ ما تبقى تفاصيل ومناورات في الوقت الضائع لا فائدة تذكر منها. لا فائدة تذكر من هذه المناورات ما دام الاقتصاد التركي في الحضيض!
استوعب أردوغان أخيراً، ان الاقتصاد التركي لن تقوم له قيامة من دون دعم أميركي. اكثر ما استوعبه أن رهانه على فلاديمير بوتين لن يأخذه إلى أي مكان.
كان بوتين، الذي اشترت منه تركيا منظومة صواريخ مضادة للطائرات من طراز «إس - 400»، بمثابة ورقة ارتدّت على الرئيس التركي وعلى بلده. فوق ذلك كلّه، تعرضت تركيا لعقوبات اميركيّة شملت، بين ما شملته، رفض تزويدها طائرات «إف - 16» ومنع مصانعها الحربيّة من انتاج قطع معيّنة مخصّصة لطائرات «إف - 35» المتطورة.
كانت قمة فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، مناسبة كي يأخذ الرئيس التركي علماً بأن روسيا خسرت حربها في أوكرانيا. لم تسفر القمّة التي حضرها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن السماح لأوكرانيا بالانضمام الفوري إلى حلف شمال الأطلسي.
لكنّ كمّية المساعدات العسكريّة التي ستحصل عليها أوكرانيا تعكس إرادة اميركيّة واوروبيّة في منع انتصار روسي في أوكرانيا... مهما كان ثمن ذلك.
كان واضحاً أنّ على اردوغان الاختيار بين الغرب من جهة وروسيا من جهة أخرى. اختار الغرب. اختار اميركا بعدما تبيّن له أنّ الليرة التركيّة ستتابع هبوطها إلى ما لا نهاية، في غياب دعم أميركي للاقتصاد التركي ورفع للعقوبات المفروضة على البلد.
اختار اردوغان العودة إلى لعب دور داخل حلف شمال الأطلسي، وهو الدور التقليدي لتركيا منذ قيام الحلف في العام 1949. لعلّ أهمّ ما اختاره يتمثل في التخلي عن الأوهام التركيّة خصوصاً لجهة التمدد في كلّ الاتجاهات، وصولاً إلى ليبيا، في ضوء التخلص من قيود وضعتها المعاهدات الدولية على تركيا قبل مئة عام.
كان الرئيس التركي يعتقد أن بلاده ستعود في السنة 2023 قوّة إقليمية مهيمنة في ضوء التخلص من مفعول تلك المعاهدات التي فرضت عليها بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى وانهيار الدولة العثمانيّة.
ستكون لتركيا علاقات افضل مع عدد لا بأس به من الدول العربيّة بينها دول الخليج العربي ومصر، بعدما ركب اردوغان في مرحلة معيّنة موجة «الإخوان المسلمين» الذي يحنّ لهم حناناً شديداً بصفة كونه واحداً منهم.
إضافة إلى ذلك كلّه، يتجه الرئيس التركي إلى العودة إلى لغة العقل والمنطق، بما في ذلك مع الجار اليوناني.
فقد أعلن رئيس وزراء اليونان كرياكوس ميتسوتاكيس، على هامش قمّة فيلنيوس، أن بلاده مستعدة «لإعادة ضبط» العلاقات مع الجارة تركيا في سياق جهود لتجاوز نزاعات مستمرة منذ عقود بين الدولتين العضوين في الناتو.
عقد ميتسوتاكيس اجتماعاً لمدة ساعة يوم الأربعاء الماضي، مع الرئيس التركي. صرح رئيس الوزراء اليوناني للصحافيين بأنهما اتفقا على استمرار الاتصالات الرفيعة المستوى.
أضاف «لن تحل مشكلاتنا بشكل سحري، لكن اجتماع اليوم أكد نيتي ونية الرئيس أردوغان على فتح صفحة جديدة في العلاقات اليونانية - التركية».
أوضح ميتسوتاكيس أن وزراء من الجانبين سيلتقون بعد نهاية فصل الصيف في مدينة سالونيكي شمال اليونان.
نحن امام اردوغان جديد. لا شكّ أنّ وزير خارجيته هاكان فيدان، الذي يعرف العالم والمنطقة معرفة جيّدة خصوصاً أنّه امضى سنوات طويلة مديراً للاستخبارات، سيساعد في إعادة الرئيس التركي إلى ارض الواقع.
يقول الواقع في كلّ انحاء العالم، بما في ذلك تركيا... «إنّه الاقتصاد...».
تصالح أردوغان مع الواقع لا أكثر ولا أقلّ !