أجريت الانتخابات النيابيّة في العراق في تشرين الاوّل – أكتوبر للماضي، أي قبل نحو ستة اشهر. كانت الانتخابات نجاحا لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي وعد بأن تكون الانتخابات في موعدها. نفّذ وعده واكّد المراقبون الدوليون الذين شهدوا عملية الاقتراع في مختلف انحاء العراق أنّ الانتخابات كانت نزيهة وشفافة. وصدر عن مجلس الامن التابع للأمم المتحدة ما يشير إلى ذلك.
بعد ستة اشهر، لا حكومة عراقية جديدة تعكس ما اسفرت عنه الانتخابات، نظرا إلى انّ الأحزاب الموالية لإيران غير راضية عن النتيجة، فيما ليس ما يشير إلى انّ "الجمهوريّة الإسلاميّة" نفسها قادرة، كما كانت في الماضي، على التحكّم باللعبة السياسيّة في العراق وفرض ما تريده، كما فعلت في العام 2010.
يدفع العراق، في ما يبدو، ضريبة خروجه من الوصاية الإيرانية المباشرة. في غياب القدرة على ممارسة الوصاية المباشرة، تلجأ ايران إلى الاعيب جديدة مختلفة مستخدمة ادواتها العراقيّة ببراعة كبيرة. أدت هذه الالاعيب الايرانيّة إلى وضع العراق كلّه في قاعة الانتظار وجعلت الازمة العراقيّة تراوح مكانها في غياب من يستطيع فرض حلّ. اخطر ما في الامر أنّ الانتظار لعبة يمكن ان تؤدي إلى عواقب وخيمة، بما في ذلك انفجار ذي طابع شيعي - شيعي في الشارع، عندما تصبح كلّ المخارج والابواب مسدودة!
في العام 2010، استبعدت طهران مباشرة بعد انتخابات السابع من آذار – مارس من تلك السنة، أياد علّاوي عن موقع رئيس الوزراء على الرغم من انّ لائحته حصلت على اكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب. فرضت نوري المالكي رئيسا للوزراء. تمّ ذلك بالتفاهم بين واشنطن وطهران في وقت كانت إدارة باراك أوباما تبحث عن استرضاء "الجمهوريّة الإسلاميّة" وعن انسحاب عسكري من العراق، وهو انسحاب حصل بالفعل لمعظم القوات الاميركيّة المرابطة في الأراضي العراقيّة في العام 2011.
لا توجد حاليا إدارة أميركية مستعدة لتفاهمات جديدة مع ايران في شأن العراق، خصوصا بعد توصّل حكومة الكاظمي العام الماضي إلى ترتيبات مع الإدارة في واشنطن. تتناول الترتيبات تنظيم الوجود العسكري الأميركي في البلد وطبيعته. كلّ ما في الأمر أنّ ايران متمسّكة بالعراق وتعتبره رهينة لا اكثر. العراق رهينة ايرانيّة في ضوء رغبة "الجمهوريّة الاسلاميّة" في فرض شروطها في أي صفقة تعقدها مع "الشيطان الأكبر" في شأن برنامجها النووي. لا تعترف ايران بأنّ العراق توصّل إلى ترتيبات مع الاميركيين من دونها. لا يستطيع النظام فيها قبول هذا الواقع والاعتراف به بعدما حققت له إدارة بوش الإبن في العام 2003 حلم السيطرة الايرانيّة على العراق!
لا حكومة جديدة في العراق، كذلك، لا رئيس جديدا للجمهوريّة خلفا لبرهم صالح الرئيس المنتهية ولايته. هناك استخدام إيراني مدروس للثلث المعطّل الذي بات جزءا لا يتجزّأ من اللعبة السياسيّة في لبنان. يبدو أنّ على العراق انتظار سنتين ونصف سنة كي تكون لديه حكومة جديدة... أو كي يُنتخب رئيسٌ جديدٌ للجمهوريّة، وذلك على غرار ما حصل في لبنان لدى انتهاء ولاية رئيس الجمهوريّة ميشال سليمان في 24 مايو – أيّار 2014. فرضت ايران، عبر "حزب الله"، وهو اداتها اللبنانية، فراغا رئاسيا في لبنان استمر سنتين وستة اشهر تقريبا وذلك من اجل فرض مرشّحها ميشال عون رئيسا للجمهوريّة في آخر شهر تشرين الاوّل- أكتوبر 2016.
دفع العراق، في الماضي، ثمن تحكّم ايران باللعبة السياسية فيه. يدفع حاليا ثمن افلات هذه اللعبة من يديّ "الجمهوريّة الإسلاميّة"، خصوصا مع اختيار العراقيين في الانتخابات النيابيّة الأخيرة ان تكون الكتلة التابعة لمقتدى الصدر الكتلة الأكبر في البرلمان. تكمن المشكلة في أنّ مقتدى الصدر يرفض ان يكون مجرّد تابع لإيران أو أداة لها. طرأ تحوّل ما على شخصيّة مقتدى الصدر وقرّر، أقلّه في الوقت الحاضر، أن يكون عراقيا وأن يعمل من اجل تشكيل حكومة عراقيّة تمثّل الاكثريّة في البرلمان بالتفاهم بين الشيعة الموالين له ومجموعة سنّية وأخرى كرديّة (الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني). أين العيب في ذلك؟ هل مطلوب ان تجري انتخابات في العراق من اجل تأكيد النفوذ الإيراني وتكريسه بدل ان يكون هناك نظام ديموقراطي حقيقي، فيه موالاة ومعارضة؟
ليس ما يعكس حال الضياع الإيرانيّة اكثر من الوضع العراقي. صحيح انّ كلّ الأبواب السياسيّة مسدودة في العراق، لكنّ الصحيح أيضا انّ ثمة مخاوف من انفجار داخلي في ظلّ أزمة سياسية عميقة بدأت عمليا مع الاجتياح الأميركي في العام 2003، وهو اجتياح سمح لقادة الميليشيات العراقيّة المرتبطة عضويا بايران بالعودة إلى بغداد على ظهر دبابة اميركيّة.
ليس العراق في العام 2022 سوى نتيجة طبيعية للارتجال الذي مارسته إدارة بوش الابن عندما اتخذت قرارا بإسقاط نظام صدّام حسين بالقوّة. كان يجب اسقاط هذا النظام ولكن كان يجب أيضا التفكير في النتائج التي ستترتب على مثل هذه الخطوة وعلى تسليم العراق على صحن من فضّة إلى "الجمهوريّة الاسلاميّة" في ايران. سلّمت اميركا العراق إلى ايران التي لم تعد تعرف ما تفعله في بلد يرفض شعبه، بأكثريته، أن يكون مجرّد جرم يدور في فلكها. الأهمّ من ذلك كلّه، لم يعد في ايران من يعرف كيف يدير الوضع على الأرض في غياب قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الإيراني. كان العراق بين الملفات التي يتولاها قاسم سليماني الذي اغتاله الاميركيون في اثناء خروجه من مطار بغداد وليس في ايّ مكان آخر.
يتبيّن اليوم كم كان شخص سليماني مهمّا ومحوريا بالنسبة إلى المشروع التوسّعي الإيراني، أكان ذلك في العراق نفسه او في سوريا ولبنان واليمن... وحتّى في مصر حيث يتبين انّه كانت لديه محاولات لإحداث اختراقات في العمق فيها عن طريق حلفاء "الجمهوريّة الاسلاميّة" من الإخوان المسلمين!
بعد ستة اشهر على الفراغ الحكومي وأقل من ذلك على الفراغ الرئاسي في العراق، يصح السؤال: العراق إلى اين... وهل يمكن إعادة تركيب العراق وإلى اين سيقود الضياع الإيراني الذي يعبّر عن نفسه في كلّ يوم في بلاد الرافدين؟