بإنتخابات أو من دون انتخابات، يصعب عزل حال الإنهيار في لبنان عن احداث المنطقة. لا تزال المنطقة تعيش في ظلّ تفاعلات الزلزال العراقي الذي تسببت به إدارة جورج بوش الإبن في العام 2003. وقتذاك سلمّت اميركا هذا البلد إلى "الجمهوريّة الإسلاميّة" في ايران. في ضوء هذا الحدث المصيري على الصعيد الإقليمي، لم يعد سقوط لبنان، الذي يعاني من أزمة وجوديّة، حكرا عليه.
بات الفشل عنونا يرفرف في سماء منطقة المشرق العربي كلّها.
لم يعد من مكان في المنطقة سوى لكلمة واحدة هي كلمة الفشل. في أساس هذا الفشل غياب ايّ دولة عربيّة في منطقة المشرق، باستثناء المملكة الأردنيّة الهاشميّة. تمتلك المملكة حدّ ادنى من التماسك الداخلي، كما تستطيع القيادة السياسية فيها استيعاب موازين القوى الإقليميّة من جهة وما يدور على صعيد العالم من جهة أخرى.
فقدت كلّ دولة من الدول المشرقيّة الثلاث، أي العراق وسوريا ولبنان، مقومات وجودها. لم يعد العراق سوى مثال حيّ للدولة الفاشلة بكلّ المقاييس، خصوصا بعدما استطاعت ايران التحكّم بها نتيجة الحرب الأميركية في العام 2003، وهي حرب خرج منها منتصر واحد هو "الجمهوريّة الإسلاميّة" التي لم تعد تعرف ما الذي عليها أن تفعله بانتصارها العراقي.
ليس ما يدلّ على مدى الفشل العراقي أكثر من العجز عن تشكيل حكومة جديدة، تخلف حكومة مصطفى الكاظمي، على الرغم من انّ الانتخابات النيابيّة أجريت في تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي. خسرت الأحزاب الموالية لإيران تلك الانتخابات. رفضت "الجمهوريّة الإسلاميّة" تقبّل الخسارة ورفضت دعوات الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر إلى تشكيل حكومة تضمّ تحالفا حزبيا شيعيا – سنّيا – كرديّا مع وجود معارضة داخل مجلسّ النوّاب لهذه الحكومة. فرضت ايران جمودا سياسيّا في العراق. لم يعد من مكان في العراق سوى لما ترغب به ايران المرفوضة من أكثرية الشعب العراقي!
بدل ان تستثمر ايران في علاقات حسن جوار مع العراق، استثمرت في الميليشيات المذهبيّة التابعة لها والتي تعمل تحت تسمية "الحشد الشعبي". لم يكن لديها من هدف، بعد العام 2003، سوى الثأر من العراق والعراقيين غير مدركة انّ مثل هذا الحقد على العراق والعراقيين سيرتدّ على "الجمهوريّة الإسلاميّة" نفسها التي لم تعد لديها قدرة على التحكّم بمجريات الأمور في البلد الجار. لا تدرك "الجمهوريّة الإسلاميّة" أن لا نموذج ناجحا لديها، باستثناء اثارة الغرائز المذهبيّة، تستطيع تصديره إلى العراق الذي لم يعد معروفا هل يمكن ان يخرج يوما من الجمود السياسي الذي لا افق له في المدى المنظور. في غياب أيّ انفراج من أي نوع يمكن ان يأمل به العراقيون، ثمّة مخاوف حقيقية من انفجار داخلي في غياب القدرة على حلّ المشاكل الاجتماعية والحياتيّة في بلد يدخل خزينته، شهريّا، مبلغ احد عشر مليار دولار واكثر من بيع النفط!
سيكون صعبا إعادة تركيب العراق بعدما تبيّن أنّ النظام القائم منذ العام 2003 لا يقلّ سوءا عن نظام صدّام حسين الذي ادخل العراق في مغامرتي الحرب مع ايران ثمّ احتلال الكويت، وهما مغامرتان لم يستطع الخروج منهما سالما.
ليس النظام العراقي وحده من النوع غير القابل للحياة، هناك النظام السوري أيضا الذي يتكشف افلاسه يوما بعد يوم. ليست الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس النظام بشّار الأسد لطهران، حيث التقى "المرشد" علي خامنئي، سوى تعبير عن هذا الإفلاس. يزداد الوضع الداخلي السوري سوءا فيما تزداد ايران قوّة على الأرض السوريّة، على الرغم من الضربات الإسرائيليّة.
استفادت ايران إلى حدّ كبير، على الصعيد السوري، من غرق روسيا في الوحول الأوكرانيّة. لم يعد التوازن الذي كان قائما بين طهران وموسكو موجودا. سحبت روسيا التي تبيّن انّها تستطيع ممارسة الهمجية في سوريا من دون حسيب او رقيب قسما من قواتها الموجودة في هذا البلد. فعلت ذلك بعدما اكتشفت ان الحرب الأوكرانيّة ليست نزهة، خصوصا في ظلّ مقاومة حقيقية يبديها الأوكرانيون من جهة ووقوف العالم الغربي في وجهها بحزم كبير، لم تكن تتوقّعه، من جهة أخرى.
ذهب بشّار الأسد إلى طهران من اجل إعادة تفعيل الخط الإئتماني الإيراني الذي كان يسمح له بشراء نفط وغاز وتوفير مواد غذائية للسوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام. طلبت "الجمهوريّة الإسلاميّة" الكثير من اجل إعادة تفعيل الخطّ الإئتماني مع النظام سوريا... ولكن هل لديها مشروع سياسي لسوريا باستثناء تغيير طبيعة التركيبة الديموغرافيّة للبلد من وجهة نظر مذهبيّة والسيطرة في الوقت ذاته على موارده؟
هناك افلاس سوري ليس بعده افلاس على كلّ المستويات. باتت ايران تبتز النظام السوري الذي قام وجوده، أصلا، منذ العام 1970 على لعبة الإبتزاز. لا يتفوق على هذا الإفلاس السوري سوى ذلك الذي يعاني منه لبنان الذي دخل بدوره العصر الإيراني وذلك منذ اغتيال رفيق الحريري في شباط – فبراير 2005 في سياق الإنطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الإيراني، مباشرة بعد سقوط العراق.
لا يمكن عزل اغتيال رفيق الحريري كزعيم سنّي ولبناني يمتلك علاقات عربيّة ودوليّة عن الهجمة الإيرانيّة المتجددة على المنطقة التي بدأت مع سقوط بغداد. كان مطلوبا القضاء على لبنان. هذا ما حصل بالفعل. يؤكّد ذلك الحال التي بلغها البلد الذي تحول ارضا طاردة لشعبها بعدما صار "حزب الله" يقرّر من هو رئيس جمهوريّة لبنان.
لم يعد الفشل اللبناني، الذي سيكشفه الواقع المتمثّل في ان الانتخابات النيابية التي أجريت في يوم 15 أيّار – مايو الجاري، فشلا يتيما. إنّها انتخابات لم تغير شيئا، بمقدار ما انّها ستكشف ان فشل لبنان جزء من فشل على الصعيد الإقليمي. هناك ثلاث دول يبدو مصيرها على المحكّ. هناك منطقة تبدو مقبلة على تغييرات كبيرة في اتجاه الأسوأ طبعا!