مع انتخاب إبراهيم رئيسي رئيسا للجمهورية في ايران، بات "الحرس الثوري" يسيطر على كلّ مفاصل السلطة بصغيرها وكبيرها وفي ادّق التفاصيل. ليس فرض "المرشد" على خامنئي إبراهيم رئيسي رئيسا سوى تعبير عن رغبة في تنفيذ انقلاب حقيقي يجعل من "الحرس الثوري" الحاكم الفعلي لـ"الجمهوريّة الاسلاميّة" من دون منازع.
يبدو لبنان ضحيّة من ضحايا هذه السيطرة الكاملة لـ"الحرس الثوري" على ايران. سيزداد الوضع فيه سوءا في ظلّ إصرار ايران على الإمساك بكلّ اوراقها في المنطقة من اجل فرض تسوية تتفق مع شروطها على الإدارة الاميركيّة. تعني هذه السيطرة بين ما تعنيه الرغبة في تكريس واقع يتمثّل في ان "الجمهوريّة الاسلاميّة" وضعت يدها على لبنان ولن تقبل بعودة ما يسمّى "لبنان القديم"، أي لبنان المزدهر الذي تسوده ثقافة الحياة.
ليس ما يعبّر عن هذه الرغبة الإيرانية اكثر من مقال نشرته صحيفة "كيهان" التي تعكس توجّه المحافظين، أي "الحرس الثوري" الذي سيسيطر على وزارة الخارجيّة عبر احد المنتمين اليه، وهو امير عبداللهيان. لم تعد ايران في حاجة حتّى الى القناع الذي يضعه محمّد جواد ظريف، وهو قناع يظهر عبره بين حين وآخر أنّه انسان طبيعي يمتلك ضحكة وابتسامة. في عهد رئيسي، الذي يعبّر عن توجّهات "المرشد"، لا مكان لضحكة او ابتسامة!
أفردت "كيهان" مساحة للرد على المواقف الأخيرة للبطريرك الماروني بشارة الراعي الذي انتقد "حزب الله" بسبب اطلاقه صواريخ من جنوب لبنان في اتجاه إسرائيل، مذكّرا باتفاق الهدنة للعام 1949. قالت الصحيفة: "هناك من يسعى الى تسعير تجربة قرية شويا (الدرزيّة) في جنوب لبنان ونقلها الى قرى أخرى فيها طوائف جديدة. أما المهم بالنسبة الى أصحاب عمليات النقل فهو التقاطعات بين طوائف جديدة تشكل عند تجمّعها تحالفاً بين طوائف يكون مرتبطاً بجهات خارجية ولديه هدفان: السيطرة على السلطة في لبنان وإلغاء مشروع مقاومة العدو الإسرائيلي (...) الكاردينال الماروني الراعي هو صاحب هاتين النقطتين او الداعم الأساسي لهما. توصّل (الراعي) الى انّ لبنان يعترف بـ’إسرائيل‘ منذ اتفاق الهدنة في العام 1949، لافتاً إلى انّ اشتباكات كثيرة حدثت بين قوات من حزب الله وأبناء الكثير من القرى الجنوبية".
زادت الصحيفة: "لا احد هنا يشكك بوطنية الكاردينال الراعي، لكن الكثيرين يربطون بينها وبين إصرار الراعي على الإمساك بسلطة لبنانية تشبه نموذج 1920، وهذا يتطلب تقليص (حجم) حزب الله لجهة الدور العسكري والسياسي والقوة الاقتصادية التي يتمتع بها نتيجة الدعم الإيراني. إنّ محاولة الراعي الجديدة ليست إلا محاولة لإعادة إنتاج لبنان القديم".
وخلصت الى القول: "هذا ما يفرز حقيقة وهي انّ كلّ الطوائف اللبنانية مصابة بقلق سياسي داخلي من قوّة حزب الله الإقليمية واللبنانية الداخلية السياسية، وتعرف انّ العودة الى سلطة 1920 يجب ان تمرّ بتقليص أدوار حزب الله الاقليمية واللبنانية، مع تحالف مع القوى الغربية الراعية الاساسية للبنان القديم. الى أين يذهب لبنان؟ حزب الله المقاوم هو الوحيد القادر على الاستمرار في التصدي للعدو ’الإسرائيلي‘ مع الاحتفاظ بعلاقات حسنة بين الطوائف، ولن يتخلى عن هذه الطريقة التي تحمي لبنان".
ما الذي يمكن فهمه من هذا الكلام الايراني الوقح؟ الجواب، بكلّ بساطة انّ للبنان دورا يودّيه لمصلحة "الجمهوريّة الاسلاميّة". من اجل تأدية هذا الدور، على لبنان ان ينسى ماضيه الغني والمزدهر. أي على لبنان ان يتجاهل انّه كان بلدا يعيش اهله في ظلّ بحبوحة وذلك منذ ما قبل الاستقلال في العام 1943. كانت فيه جامعات ومدارس وصحافة وكهرباء وماء ومدن نظيفة. كان فيه مصارف وكان المركز المالي والتجاري للمنطقة. كان فيه مرفأ بيروت وكانت بيروت احدى اجمل المدن على شاطئ المتوسّط. لم يعد مطلوبا من بيروت ان تكون اكثر من ضاحية فقيرة من ضواحي طهران... مدينة يتحكّم بمطارها وكلّ مرفق فيها "حزب الله" الذي ليس سوى لواء في "الحرس الثوري" الإيراني.
لعلّ اخطر ما في مقال "كيهان" الإشارة الى لبنان 1920، أي الى تاريخ اعلان دولة لبنان الكبير. هل بات مطلوبا تغيير حدود لبنان، بعد عزله عربيّا، في ضوء التدخل العسكري الإيراني في سوريا عبر "حزب الله"؟ ادّى هذا التدخّل الى إزالة الحدود بين البلدين من منطلق مذهبي. اكثر من ذلك، استطاع "حزب الله" خلق امر واقع جديد على طول الحدود اللبنانية - السورية في ضوء الرغبة الايرانيّة في تغيير التركيبة الديموغرافيّة في سوريا.
باختصار شديد، دخلت ايران مع انتخاب إبراهيم رئيسي رئيسا للجمهوريّة مرحلة جديدة تتسّم بمزيد من العدائية للبنان ولكلّ ما له علاقة بثقافة الحياة فيه. الوضع في البلد يزداد سوءا يوما بعد يوم في غياب رئيس للجمهوريّة يظنّ ان ايران قادرة على إيصال صهره الى قصر بعبدا في العام 2022...
يبقى ان افضل ردّ على مقال "كيهان" انّ لبنان دولة غير قابلة للحياة في ظلّ تحكّم "حزب الله" بها. يبدو، من وجهة نظر طهران، انّ على لبنان الموت من اجل ان تحيا "الجمهوريّة الاسلاميّة". كلّ ما يبدو مطلوبا هو انّ يضحّي لبنان بنفسه من اجل صفقة تعقدها "الجمهوريّة الاسلاميّة" مع "الشيطان الأكبر" الأميركي... وبالتالي مع "الشيطان الأصغر" الإسرائيلي الذي يجد نفسه في وضع لا يحسد عليه في ظلّ إدارة اميركيّة لم تقرّر بعد ما الذي عليها ان تفعله مع ايران وكيف التعاطي مع سلوكها في المنطقة.
من الواضح، في ظلّ التصرّفات الإيرانية تجاه لبنان، بما في ذلك عرقلة تشكيل حكومة فيه، وهي عرقلة مستمرّة منذ ما يزيد على تسعة اشهر، أنّ ليس ما يوحي بوجود أيّ امل بتحسن في لبنان. لا املّ بتحسّن، اقلّه في المدى المنظور وذلك في انتظار معرفة كيف ستردّ الإدارة الأميركية على السلوك الإيراني في الداخل الإيراني نفسه وفي المنطقة... هذا اذا كانت ستردّ!