يحلم من يعتقد أن في استطاعته إعادة عقارب الساعة إلى الخلف في سوريا. هذا رهان روسي – إيراني خاسر سلفا، تماما مثل رهان دونالد ترامب الذي يظن أن في الإمكان الفصل بين موسكو وطهران والتمييز بينهما في الموضوع السوري.
لا تستهدف السياستان الإيرانية والروسية سوى تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ من جهة، وتهجير أكبر عدد من السوريين من بلدهم من جهة أخرى. من يميّز بين موسكو وطهران لا يعرف شيئا عن الشرق الأوسط وعن الرغبة في رسم خارطة جديدة له على أسس طائفية ومذهبية لا تخدم في نهاية المطاف سوى المشروع الإسرائيلي القديم ـ الجديد.
يمكن للطائرات الروسية تدمير حلب ومدن سورية أخرى وإعادة قوات تابعة للنظام إليها بدعم من ميليشيات مذهبية تابعة لإيران، بعضها عراقي وبعض آخر لبناني. لكنّ ذلك لا يمكن أن يؤدي، في أي وقت وتحت أيّ ظروف، إلى إعادة الحياة إلى ذلك النظام الذي أقامه حافظ الأسد في العام 1970 وأورثه إلى نجله بشّار في العام 2000.
هذا النظام انتهى. لم ينته لأنّه نظام أقلّوي وغير طبيعي فحسب، بلّ لأنه قبل أيّ شيء آخر مخلوق عجيب غريب خدم الهدف المطلوب منه وانتهت مدّة صلاحيته منذ فترة طويلة.
كان الهدف المطلوب دائما الانتهاء من سوريا، التي تعيش أزمة نظام منذ الانقلاب العسكري لحسني الزعيم في العام 1949. وهذا ما حصل بالفعل. ونظرا إلى أنّ الهدف تحقّق لم تعد حاجة إلى النظام العلوي – العائلي الذي قد يخدم سنة أو سنتين أخريين أو ثلاثا من أجل الانتهاء من المهمّة الموكولة إليه لا أكثر.
في استطاعة هذا النظام البقاء مؤقتا من أجل استكمال عملية تدمير سوريا وتسليمها إلى قوى خارجية لديها طموحات خاصة بها. من لديه أدنى شكّ في ذلك، يمكنه العودة إلى العرض العسكري لـ”حزب الله” في القصير الواقعة بين دمشق وحمص.
أين يوجد في العالم نظام يعتبر نفسه شرعيا ويسمح لميليشيا مذهبية عناصرها لبنانية تعتبر لواء في “الحرس الثوري” الإيراني بتنظيم عرض عسكري على أرضه؟
في اليوم الذي جرى العرض العسكري في القصير، انتهى النظام السوري رسميا. تبيّن، بكل بساطة، أنّه لم يعد قادرا على أن يطلب من إيران إنقاذ ماء وجهه، بعدما ظهر أن لديها حاجة إلى توجيه رسالة إلى إدارة ترامب فحواها أنّها موجودة بقوة في الأراضي السورية وأن لا أحد يستطيع تجاوز هذا الوجود، بما في ذلك اتفاق بين الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب والرئيس الروسي القديم فلاديمير بوتين.
المؤسف أن العالم كلّه متواطئ على الشعب السوري. حتّى أوروبا تتفرّج. همّها محصور في التعاطي مع التحوّلات التي تبدو الولايات المتحدة مقبلة عليها، وفي تفادي موجة جديدة من المهاجرين السوريين.
المخزي أن إدارة باراك أوباما بدأت بالتصعيد قبل أيّام قليلة بعد فوات أوان التصعيد. ماذا تقدّم أو تؤخر تسمية اثنى عشر ضابطا من ضباط النظام ارتكبوا جرائم في حلب وغير حلب.
لن يأخذ أي طرف علما بما تقوم به الإدارة الأميركية الحالية. لن يوجد من يخشى الكلام الأميركي أو يقيم له أي اعتبار بعدما تبيّن أن أوباما لا يتقن سوى الكلام الجميل والمنمّق.
كان بوتين أوّل من اكتشف أن الإدارة الأميركية الحالية لا تمتلك غير موهبة إطلاق الكلام الكبير والاكتفاء بذلك. كان ردّ الرئيس الأميركي على استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي ضدّ شعبه صيف العام 2013 نقطة التحوّل التي أوصلت سوريا إلى ما وصلت إليه، خصوصا عندما نسي الرئيس الأميركي أنّه كان وضع لبشّار الأسد “خطا أحمر”. ظهر جليّا أن أوباما يرى كلّ الألوان باستثناء اللون الأحمر!
لم يعد مستبعدا أن يزداد الوضع في حلب سوءا في غياب الموقف الأميركي الذي كان يمكن أن يضع حدّا للمأساة التي تعيشها المدينة. أكثر من ذلك، لم يعد في الإمكان الكلام عن اهتمام تركي بحلب. صحيح أن أنقرة تعتبر حلب مدينة تركية مثلها مثل الموصل العراقية، لكن الصحيح أيضا أن حلب والموصل كشفتا رجب طيّب أردوغان. كشفتا خصوصا أن تركيا غير قادرة على لعب دور خارج حدودها، حتّى لو كان لهذا الدور طابع إنساني محض. كان كافيا التلويح لأنقرة بالورقة الكردية حتّى تحصر همّها السوري في كيفية منع الأكراد من إقامة موطئ قدم لهم هناك.
هناك همّ كردي يفوق كلّ هم آخر في تركيا. وهناك تخوّف من السياسة الأميركية، خصوصا من سياسة إدارة أوباما. وهذا جعل الرئيس التركي يعيد النظر في كلّ إستراتيجيته، ويركّز على كيفية التوصل إلى اتفاقات مع الرئيس الروسي.
إذا كان لا بدّ من الاعتراف بأنّ لا مجال لأي رهان على دور إيجابي لإيران أو روسيا أو الولايات المتحدة أو تركيا أو أوروبا في سوريا، لا يمكن في المقابل إلا الرضوخ لأمر واقع فرضه العالم في سوريا. يتمثّل الأمر الواقع هذا في أن البلد الذي كان يمكن أن يكون من أنجح البلدان في الشرق الأوسط مقبل على التفتت.
معروف ما الذي تريده إيران التي تعمل يوميا على تغيير طبيعة دمشق والمنطقة المحيطة بها، وربطها بمناطق نفوذ “حزب الله” في لبنان. معروف ماذا تريد روسيا التي تريد بقاء الساحل السوري تحت سيطرتها، وتعمل من أجل إقامة قواعد دائمة فيه.
معروف ماذا تريد تركيا المنشغلة بكيفية حماية نفسها من المشروع الكردي في وقت بات رئيسها يعرف أين الحدود التي عليه التوقّف عندها. معروف أن إسرائيل مرتاحة أكثر من اللزوم للتطورات السورية بعدما أدّى لها النظام كلّ الخدمات التي كانت تحلم بها.
معروف، فوق ذلك كلّه، أنّ الإدارة الأميركية الجديدة ستحتاج إلى وقت طويل قبل أن تكتشف أن إيران وروسيا وجهان لعملة واحدة في سوريا. ما ليس معروفا الشكل الذي ستتخذه سوريا الجديدة. هل هي حرب المئة العام التي تؤسس لها القوى الإقليمية والدولية المتورطة في سوريا؟
من الآن، ثمّة أمر واحد أكيد في سوريا. هذا الأمر مرتبط بالنظام الذي شيّده حافظ الأسد من منطلق طائفي. قّرر النظام ربط مصير سوريا به. حقّق ما يريده. ما نشهده في حلب خير دليل على ذلك…